على باب المسجد الأموي.. من قصص النصب على أهالي المعتقلين


يبقى ملف المعتقلين السوريين، الحاضر في المحافل الدولية والبيانات السياسية، والغائب عن أي تقدم جديد ولا حتى على سبيل معرفة مصير الآلاف الذين غيّبتهم سجون الأسد منذ اندلاع الثورة. ويبقى الأهالي هم الفئة الأكثر تضرراً من هذا االملف، فهم يتجرعون نوبات الألم والشوق، منتظرين بصيص أمل لمعرفة أخبار فلذات أكبادهم.

منذ اعتقال ولده البكر، يداوم الحاج "أبو موفق" (اسم مستعار) على صلاة الفجر جماعة، وعلى توزيع الصدقات، وهو دائم الدعاء والابتهال، وهو على هذه الحال منذ اختفاء ابنه على أيدي عناصر مخابرات الفرع ٢١٥ التابع لقوات الأسد.

انقطعت الأخبار عن الشاب المعتقل نهائياً، وحاول الحاج مرات عديدة السؤال عنه، هنا وهناك، لكن دون جدوى. ومنذ فترة صغيرة تلقى محدثنا، اتصالاً هاتفياً من قبل ضابط يعمل في إحدى أجهزة المخابرات، بحسب ما عرّف عن نفسه.

يقول "أبو موفق": "سرد لي المتصل جميع المعلومات عن ولدي من تاريخ ميلاده واسمه الكامل والمدينة التي نسكنها وطبيعة عمله ويوم اعتقاله. وأخبرني أنه الآن بصحة جيدة ويمكنه إخراجه".

وبصوت متهدج، وبحة مخنوقة، تابع "أبو موفق" كلامه: "طلب مبلغ ٣٠٠ ألف ليرة فقط، لكي يسلمني ولدي، واشترط أن يبقى الأمر سراً، وأن يتم التحويل عن طريق كود لشريحة موبايل، وأن أقوم بتحويله كرصيد وحدات".

بعد جدال وأخذ ورد، بين "أبو موفق" والمتصل، لم يصلا لنتيجة تثبت لأبي موفق أن ولده سيخرج في حال سلّم المبلغ المطلوب. يتابع محدثنا: "ترددت في إرسال المبلغ المطلوب، وحاول صديقي إيقافي وحذرني من أنها قد تكون عملية نصب".

"الغريق بيتعلق بقشة؛ لذلك أرسلت المبلغ المطلوب"، قال "أبو موفق".

وبعد تحويله للمبلغ فقد الحاج تواصله مع الرجل المتصل، وفقد نقوده، وحبل الأمل الجديد، في أن يلتقي بابنه.

معتقل سابق

"راضي"، وهو معتقل سابق، قال إن هوية المتصل بالحاج "أبو موفق" من المؤكد أن تكون لضابط بقوات النظام، ولكن ليس بالضرورة أن يكون ذا نفوذ، أو أن يعرف المُعتقل شخصياً، لأن هذه المعلومات التي أوردها للحاج "أبو موفق" تُؤخذ من المعتقل عند دخوله، وتُوضع بأرشيف النظام، وتسمى "الفيشة"، وتحمل جميع المعلومات، من تاريخ الميلاد وحتى لحظة الاعتقال، وأرقام وعناوين أقرباء المعتقل.

موقف المحامين

وذكر محامي يقيم في العاصمة دمشق، فضّل عدم ذكر اسمه، وتحدث في تصريحات خاصة لـ "اقتصاد"، أنه قُدّمت له الكثير من القضايا التي تتعلق بحوادث نصب على أهالي معتقلين، ولكنه لم يستطع استقبالها أو لم يجرأ على تقديمها للمحكمة، لأن الطرف الآخر فيها هو في الغالب، ضابط أو أشخاص مجهولي الهوية.

وأشار محدثنا أن دور المحامين في ملف المعتقلين محدود جداً، ومرهون بمزاجية القضاة والضباط، وما يمكن للمحامي عمله هو إخراج قيد للمعتقل، ليتبيّن إن كان ما يزال حياً أم لا؛ وأحياناً يمكنهم السؤال عنه لمعرفة السجن الموقوف فيه. وعقّب المحامي: "موضوع أن أتوكل في مثل هذه القضايا، صعب جداً، ويُعرّضني للمساءلة الأمنية".

اللعب على وتر العاطفة وحالات ابتزاز أهالي المعتقلين، باتت حوادث متكررة جاءت بعد أن فقد الأهالي الثقة باللجوء لمحامين أو ضابط يمكنهم من خلاله، تخليص المعتقل. وبعد تكرار عمليات النصب أصبح الضابط هو من يبحث عن أهالي المُعتقل لابتزازهم والاحتيال عليهم.

ضحية أخرى

تروي "أم غياث" لـ "اقتصاد" تعرضها لحادثة نصب كلفتها قرابة مليون ونصف المليون ليرة، كان ذلك عندما كانت في زيارة للمسجد الأموي بدمشق وأثناء صلاتها كانت تبتهل بالدعاء وتذرف دموعاً سخية من أجل أن يرد الله لها ولدها الوحيد الذي اعتقل منذ ٦ سنوات، وبعد أن أنهت صلاتها اقتربت منها إحدى النساء في المسجد وبدأتا تشكيان حالهما لبعض، وتحدثت المرأة عن ابن لها معتقل وأنها دائمة الصلاة والدعاء له، وتحدثت "أم غياث"، بدورها، عن ولدها، وعمره وتاريخ اعتقاله، وماذا يحب وماذا يكره، وانتهى الحديث بمغادرة المرأة واختفائها عن ناظري "أم غياث".

وعلى باب المسجد، وعندما همت "أم غياث" بالخروج، استوقفها شاب يرتدي بدلة عسكرية، ونظر في عينيها وناداها، فوقفت مستغربة، واقترب منها ليقول "صرلي شهر عم اسأل عليكي لحتى اقدرت استدل.. أنا من طرف ابنك".

تسارعت دقات قلب "أم غياث" التي كادت أن تسقط أرضاً وكان الشاب يسرد عليها اسم ابنها الكامل وتاريخ ميلاده واعتقاله، وطلب منها مبلغ ١٠٠ ألف، وقال إنه يريد أن يبدأ بمعاملة إخراجه، واشترط أن يبقى الأمر سراً، وتذرع بأنه إذا كُشف أمره سوف يتم اعتقاله وربما يُعدم.

على الفور خلعت "أم غياث " خاتمها الذهبي وأعطته للشاب الذي مضى وأخبرها أن تنتظره بعد يومين، بنفس المكان، وتحضر دفعة أخرى من المبلغ وهو 1.5 مليون ليرة.

مضى أسبوعان والتقت "أم غياث " بالشاب عدة مرات، وفي كل مرة كانت تدفع النقود وهو يَعِدُها ويرسل لها رسائل من ابنها. "قال لي مرة، (ابنك بحب البامية، وقال بدو ياكي تطبخيها أول ما يطلع)"، قالت "أم غياث".

وفي الموعد الأخير الذي حدده الشاب، ووعد "أم غياث" أنها ستلتقي بابنها فيه، كان المكان مطوقاً بدورية عسكرية، واقترب أحد العساكر وهمس لـ "أم غياث": "الشب يلي كنتي عم تتعاملي معه اعتقل وبدهن يعتقلوا كل شي اتواصل معو"، بعد هذه الكلمات ارتجفت السيدة، وغادرت المكان وهي تجهش بالبكاء، لتكتشف بعدها أن المرأة التي قابلتها بالمسجد والشاب العسكري والدورية العسكرية، فريق متكامل، امتهن النصب والاحتيال، ولم تكن هي أول ضحاياه.

ترك تعليق

التعليق