نفط سوريا الخفي


إن طرحتَ على مجموعة من الجمهور السوري، مختلفة الاختصاصات والمشارب، السؤال التالي: هل تعتقد أن هناك ثروة نفطية ضخمة غير مُعلنة في سوريا؟ ستُفاجئ بأن جزءاً كبيراً من الأجوبة ستكون "نعم"، وبعضها سيكون "بالتأكيد". وقد تُصادِف بين هذه الآراء شهادات منقولة تؤكد وجود لغز كبير أُخفي لعقود عن السوريين، باستثناء بعض الهمسات التي كانت تدور في الجلسات الخاصة، في أوساط مسؤولييهم، من حين لآخر.

حينما بحثنا في ملف النفط السوري، اكتشفنا بأن شعبية الرأي القائل بوجود ثروة نفطية غير معلنة، في سوريا، كبيرة للغاية. وقد ازدادت مع شهادات سكان في المنطقة الشرقية، خلال السنوات السبع الماضية أشاروا إلى أن آباراً أُعلن عن نضوبها، أو تراجع إنتاجها، كانت مصدراً رئيسياً لنشاط الاستخراج البدائي الذي نشط خلال سيطرة جماعات معارضة وجهادية، كان آخرها تنظيم "الدولة الإسلامية"، الذي كان عماد تمويله، هو النفط المستخرج في الجزيرة السورية، وفي الشمال الغربي من العراق.

لكن إن انتقلنا إلى أوساط المتخصصين، نجد أن شعبية هذا الرأي تتضاءل، كلما ازداد قرب التخصص العلمي والمهني، من الشأن النفطي. إلا أن ذلك لم يمنع من وجود مؤيدين لهذا الرأي في أوساط أكاديميين متخصصين بالاقتصاد أو بإدارة الأعمال، أو باختصاصات ذات صلة بها. مع الإشارة إلى أننا لم نتمكن من الوقوع على هذا الرأي في أوساط متخصصين بالنفط تحديداً.

نفط سوريا.. "صندوق أسود"

من الأكاديميين المؤيدين لمقولة "نفط سوريا الخفّي"، الدكتور "عبد الناصر الجاسم"، وهو أستاذ في اختصاص إدارة الأعمال، بجامعة ماردين في تركيا، وقد تحدث إلينا باستفاضة في هذا الشأن، واصفاً حجم الثروة النفطية السورية بـ "الصندوق الأسود" المجهول للسوريين، شعباً ومؤسسات.

ويذهب "د. الجاسم" إلى أن المؤسسات ذات الصلة بالثروة المعدنية في سوريا، ذاتها، كانت محجوبة عن الأرقام الحقيقية للثروة النفطية السورية، حسب اعتقاده.

ويستدل "د. الجاسم" على ذلك، بتصريحات "سلطات الأمر الواقع" التي أدارت المنطقة الشرقية، بعد العام 2012، وتحديداً، تنظيم "الدولة الإسلامية"، ومن ثم، "قوات سورية الديمقراطية"، حيث "تبين كم كان الشعب السوري منهوباً ومحروماً من ثرواته التي ذهبت إلى حسابات المستبدين والمتنفذين من هوامير المال المرتبط بالسلطة".

وحسب "د. الجاسم"، فإن أكبر دليل على صحة ما سبق، أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، يوضح للجميع، وبصوت عالٍ، ويدعو الشركات الأمريكية لإدارة هذه المنطقة، بثرواتها، وتصدير نفطها، والاستفادة من العوائد لصالح الخزينة الأمريكية.

"في الجزيرة السورية ما يكفي لإثارة شهوات الأمريكيين"

ويصف "د. الجاسم" الوجود الأمريكي في المنطقة الشرقية، بـ "الاحتلال غير الشرعي"، وأنه بغاية نهب الثروات، بصورة غير قانونية. وهو وجود، حسب "د. الجاسم"، لا يختلف عن باقي الطامعين في مناطق سوريا أخرى، كالروسي والإيراني.

وتبقى أبرز نقطة يرى "د. الجاسم" أنها جليّة، حسب تقديره، هو أن في الجزيرة السورية ما يكفي لإثارة شهية الأمريكيين، وهم يسعون الآن لإشباع شهيتهم بالفعل.

بدوره، يتفق الدكتور سهيل الحمدان، مع ما ذهب إليه "د. الجاسم"، أعلاه. إلا أن "د. الحمدان" يقدم معلومات وقراءات أكثر تفصيلية، وربما أكثر إثارة للدهشة والصدمة في أوساط البعض.

نفط "شرق الفرات" مقابل كرسي الحكم للأسد

ويطرح "د. الحمدان" نظرية مفادها، وجود صفقة ما، تم الاتفاق عليها مؤخراً، بين الأسد والأمريكيين، يمكن تلخيصها بأن الأسد، ربما، تخلى عن نفط "شرق الفرات" للأمريكيين، مقابل البقاء على كرسي حكمه.

ويحمل "د. الحمدان" دكتوراه في الجدوى الاقتصادية للتعليم من جامعة دمشق، في العام 2007، ويعمل حالياً كمدرس في الجامعة الأمريكية للعلوم الإنسانية، ومقرها في ولاية كاليفورنيا بالولايات المتحدة الأمريكية، وهي جامعة تعتمد أسلوب التعليم عن بعد (الإنترنت) إلى جانب التعليم الصفي الحضوري, وباللغتين الإنجليزية والعربية.

ويسترسل "د. الحمدان" في شرح نظريته، والتي يعتقد فيها بأن يكون الأمريكيون أصبحوا على دراية كافية بكمية الإنتاج الفعلية في مناطق "شرق الفرات" بعد سنوات من دخولهم وتمركزهم هناك.

ويستند "د. الحمدان" في نظريته إلى شهادات وتجارب عاينها شخصياً، طوال سنوات من عمله كمدرّب بالشركة السورية للنفط. وقد تكون تلك الشهادات وما بناه عليها من تحليلات، هو أكثر ما يثير الصدمة في نظرية "د. الحمدان". فهو يذهب إلى أن الكميات المنتجة بالفعل من نفط سوريا، في سنوات ما قبل العام 2011، هي أعلى بكثير من الكميات المُصرح بها.

"إنتاج سوريا تجاوز المليون برميل نفط يومياً"

وحسب تقديرات وشهادات، جمعها "د. الحمدان" من عمله كمدرّب في الشركة السورية للنفط، فهو يعتقد أن إنتاج سوريا الفعلي من النفط، منذ منتصف الثمانينات، كان يصل إلى ما بين 1.4 و1.6 مليون برميل، يومياً. كان يدخل منها 300 ألف برميل، وسطياً، لحساب خزينة الدولة السورية، فيما يُباع الباقي لحساب "آل الأسد".

بطبيعة الحال، هذا الرقم هائل بكل المعايير، ولو كان دقيقاً، فهو يؤهل سوريا لتكون إحدى دول مجموعة "أوبك" النفطية. وهذه النقطة بالذات، يُعلّق عليها "د. الحمدان"، بالإشارة إلى أن حكومة النظام، طوال العقود الماضية، كانت تخشى التصريح عن الكميات الحقيقية المُنتجة من النفط، لأن ذلك سيُجبرها على الدخول في منظمة "أوبك"، حسب وصفه، ذلك أن أي دولة إنتاجها أكثر من مليون برميل نفط، ملزمة بدخول تلك المنظمة، والكشف بشفافية عن أرقام كميات الإنتاج.

وكان مسؤولو النظام من الدائرة الضيقة يبررون ذلك بأنه إذا دخلت سوريا مجموعة "أوبك"، فإن "الدول الاستعمارية ستأتي وتحتل سوريا بسبب النفط"، حسب شهادة "د. الحمدان". 

"حصّة الأسد من النفط كانت حوالي 40 إلى 50 مليار دولار سنوياً"

وتحتوي تلك الشهادة على تفاصيل أخرى، مثيرة للصدمة، منها أن نظام الأسد، وعن طريق القصر الجمهوري، كان "يرسل ظرفاً مختوماً بالشمع الأحمر إلى (المجموعة الإحصائية)، وبداخله رقم الإنتاج السنوي من النفط، في حين لا يوجد أي ارتباط بين الرقم المرسل بكميات الإنتاج وبين ما يُنتج فعلياً".

ويعتقد "د. الحمدان" بأن أقل كمية تراجع إليها إنتاج سوريا من النفط، قبل العام 2011، كانت حوالي 850 ألف برميل يومياً، كان يدخل منها 150 ألف برميل فقط، في الموازنة، عبر الشركة السورية للنفط، فيما يُباع 700 ألف برميل يومياً، لصالح رأس النظام، بشار الأسد.

وحسب شهادة "د. الحمدان"، فإن أحد رجال الأعمال المقربين من شركاء رأس النظام السابقين، - لم يُسمه-، قدّر بأن حصة بشار الأسد من بيع النفط، كانت ما بين 18-19 مليار دولار عام 2008، عندما انخفضت أسعار النفط بسبب الأزمة المالية العالمية. بينما تُقدّر حصته في السنوات السابقة عندما كانت أسعار النفط مرتفعة ما بين 40-50 مليار دولار سنوياً. فيما كانت موازنة سوريا كلها بحدود 10 مليار دولار.

كل ما سبق، على ذمة "د. الحمدان"، الذي يضيف بأن لرأس النظام شراكات عديدة في مجال النفط وغيره، مع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، ومع أمراء خليجيين، ومع شركة "سونطراك" الجزائرية. في الوقت نفسه، كان يتم تجويع وتهجير سكان المنطقة الشرقية.

ترامب جاهر بـ "عقد صفقة" بخصوص نفط "شرق الفرات"

وبالعودة إلى ما يحدث اليوم، يعزز "د. الحمدان" نظريته حول وجود صفقة ما بين واشنطن والأسد، بتصريح جلّي لـ ترامب عشية الحديث عن بقاء جنود أمريكيين في آبار نفط بـ "شرق الفرات"، قبل أسابيع، حينما قال "إننا نقوم بصفقة الآن". وعقب ذلك بيومين، خرج بشار الأسد على الإعلام الرسمي، ومن خلال حديثه وحركات جسده ونبرة صوته، يُلاحظ أنه حصل على ضوء أخضر لبدء مرحلة جديدة.

ويخلص "د. الحمدان" إلى أن الأسد عقد صفقة مع ترامب، من وراء الكواليس، أو ربما فرض ترامب تلك الصفقة على الأسد. لكن باختصار، يبدو أن الأسد، حسب "د. الحمدان"، باع نفط "شرق الفرات" للأمريكيين، كما سبق وباع الساحل لروسيا.

لماذا تعدّ نظرية "الصفقة" مُغرية؟

قد تكون نظرية "د. الحمدان"، مُغرية، فهي تقدم تفسيرات مُقنعة لتمسك الأمريكيين بنفط "شرق الفرات"، رغم التوجه الغالب في أوساط رأيهم العام، وأوساط نخبهم، بالحدّ من التدخل العسكري في أية ساحة خارجية. كما أنها تقدم تفسيراً للغزٍ، لطالما حيّر السوريين، لماذا تتمسك قوى كبرى، في مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا، وأخرى إقليمية، كبعض دول الخليج وإيران، ببقاء بشار الأسد على رأس هرم السلطة في دمشق؟ والجواب هنا يكون مبُسطاً جداً، ويحظى بقدرة كبيرة على الإقناع، ومفاده أن الأسد مستعد لأن يقدم ثروات سوريا الضخمة، وغير المعلنة، على طبق من فضّة، لكل من يقرّ ببقاءه على كرسي الحكم، في حي المهاجرين، بدمشق، مقابل شراكة جزئية معه.

"الدكتور سهيل حمدان"، يدير اليوم، "بيت الخبرة" للدراسات والاستشارات الاقتصادية، وهو أكاديمي يتمتع بخبرة ميدانية قريبة من الشأن النفطي، وتحظى نظريته التي فصّلناها آنفاً، بجمهور كبير في أوساط السوريين. لكن، رغم كل ما سبق، تلقى النظرية ذاتها، الكثير من الانتقادات، والتفنيد، خاصة في أوساط المتخصصين بالشأن النفطي تحديداً.

فما هي أبرز نقاط التفنيد تلك؟، وهل يمكن الجزم بحقيقة ما تملكه سوريا من ثروات في باطنها؟، وماذا عن مستقبل سوريا، وتحديداً، ثروتها النفطية، في ظل القراءتين اللتين تم استعراضهما في الجزء الأول والثاني؟


نتابع مناقشة ذلك في الجزء الثالث والأخير من سلسلتنا "هل تطفو سوريا على بحيرة نفط؟"..

مواد ذات صلة:

 (شارك في إعداد هذا التقرير كل من: مصطفى محمد، أحمد زكريا، محمد كساح، شمس الدين مطعون. وقام بالتنسيق وإعداد الصياغة النهائية: إياد الجعفري)


ترك تعليق

التعليق