قصّة كفاح.. طاهية سورية تجوب شوارع اسطنبول، بدراجتها النارية


على دراجة نارية صغيرة مزودة بمظلة تقيها حر الصيف ومطر الشتاء، تتنقل اللاجئة السورية "غادة العابو" في شوارع وضواحي اسطنبول، لتوزيع الأكلات التي تقوم بتحضيرها في منزلها، على المطاعم والبيوت، بشكل يومي، وهو العمل الذي اتخذته مصدراً للعيش وتربية أبنائها وأحفادها بعد نزوحها إلى تركيا جراء الحرب وفقدان أحدهم الذي لا يزال مجهول المصير منذ سنوات.

منذ ساعات الصباح الأولى، تنزع أم صبحي قابس الكهرباء الموصول بدراجتها وتضع الطلبات التي سهرت الليل على تحضيرها في الصندوق الخلفي للدراجة، ثم تنطلق مخترقة الساحات والشوارع في مدينة اسطنبول لتوزعها على الزبائن بكل همة ونشاط رغم أنها اقتربت من منتصف العقد الخامس.

 وباتت رؤية أم صبحي مشهداً مألوفاً للمارة والعابرين الذين اعتادوا على التقاط الصور التذكارية معها وتشجيعها بعبارات الترحيب والثناء.


في سن الثالثة عشرة من عمرها انتقلت "أم صبحي" من حلب إلى دمشق وتزوجت هناك، وبعد وفاة زوجها عام 2004 لم تجد بداً من العمل لإعالة أسرتها فبدأت بالعمل في حياكة الملابس ومشغولات التطريز. ومع بداية الحرب اضطرت للنزوح من حي العمارة وسط دمشق لتعيش في منطقة برزة-غرب العاصمة- وعملت كشيف في فندق الميرديان وأثناء ذلك فُقد أحد أبنائها أثناء محاولته تجديد جواز سفره، وانتقلت عائلتا ابنيها إلى تركيا، وبقيت هي لمدة 9 أشهر قبل أن تلحق بهم.

 وفي تركيا –كما تروي لـ"اقتصاد"- كان لابد من البحث مجدداً عن عمل يعينها وأحفادها في ظروف اللجوء وصعوبات الحياة، فبدأت بتحضير الأكلات الحلبية التي اعتادت على تحضيرها وتوزيعها على الشركات والمطاعم، إضافة إلى عملها في شركة "ياسر حداد" كطباخة، ثم انتقلت للعمل في مطعم "قصر النرجس" لصاحبه "أبو جاد" لتعمل في تحضير الأكلات الحلبية التقليدية كالسجق والمقادم والكرشات والحفاتي والفتات بأنواعها.

بعد عام من عملها استدانت اللاجئة الخمسينية ثمن ماكينة فرم صغيرة لتحضير الكبب، وبدأت تعمل في منزلها وتوزع منتجاتها للمطاعم. ولكونها مريضة قلب وديسك، اشترت دراجة نارية بالتقسيط من مردود عملها وبدأت بقيادتها وتوزيع هذه المنتوجات عليها في شوارع وضواحي اسطنبول كاسرة حاجز الصورة النمطية للمرأة.


وكشفت الطاهية السورية أنها كانت تملك خبرة بسيطة في قيادة الدراجات النارية لأن زوجها الراحل كان يملك محلاً لإصلاحها في حي العمارة بدمشق، وعندما اشترت دراجتها بدأ ابنها بتعليمها القيادة، وأضافت أنها لا تجد أي إحراج في قيادة الدراجة في اسطنبول رغم أنها أنثى، لأن الأتراك -حسب قولها- يحترمون كبار السن، وإذا كانت تمر في أي منطقة يوقفون سياراتهم للسماح لها بالمرور، مضيفة أنها لم تجد أي صعوبة في التحرك والإنتقال بهذه المركبة حاملة أحفادها الصغار في صندوقها الخلفي أحياناً لإتاحة فرصة اللعب والترفيه لهم وليؤنسوها في رحلتها اليومية.

وتتجول أم صبحي على مركبتها الصغيرة في شوارع "إكسراي" و"الفاتح" وا"لإطفائية" و"كرا جمرك" و"ميدان تقسيم" ونزلة "أبو دونيس" و"أمنيات"، بشكل يومي تقريباً، حيث تتوزع منازل ومحال زبائنها، وهناك مناطق بعيدة نسبياً كأفجلار وباجاك شهير لا تذهب إليها لأن شحن الدراجة محدد بمسافة 35 كم فقط.

 وتابعت محدثتنا أن الأتراك عندما يرونها يبادرون لتحيتها وتشجيعها على عملها، وبعضهم يلتقط معها صور سيلفي، مضيفة أنها لم تواجه أي مشكلة أو صعوبة في عملها اليومي رغم ساعات العمل الطويلة ومشاق التنقل.


ونوّهت "غادة العابو" إلى أن أكثر الأكلات التي تُطلب منها بالنسبة للمطاعم هي "الكبة المقلية" و"الكبة اللبنية" والمشوية، أما بالنسبة للبيوت فأكثر المطلوب هو الطبخ الشرقي عامة، لأن لديها شهادة في تحضيرها، وكذلك المناسف والأكلات السورية التقليدية كالـ "يالانجي" و"اليبرق" و"المحاشي" بأنواعها، كما تحضر المناسف في المطاعم التي تتعامل معها كـ"قصر النرجس" و"أبو عرب" وتتقن –حسب قولها- تحضير بعض الأكلات التركية كالفاصولياء والكفتة، لكن تركيزها منصبّ على الأكلات السورية، لأن أغلب زبائنها سوريون وعرب -كما تقول- مضيفة أنها تحرص على توفير كل شروط النظافة في مكان عملها، وارتداء قفازات أثناء القطع والطبخ وتغليف الوجبات بالجلاتين أو القصدير.

 وأردفت أن نَفسْ الأكل يلعب دوراً في نكهته ومذاقه الطيب، ولذلك تهتم بتحضير الطعام وكأنها تتقدم لامتحان وتركز فيه على أدق التفاصيل، ويقوم ابنها وكناتها بمساعدتها في عملها فمنهم من ينقي البرغل من الشوائب ويجهزه ومنهم من يجهز مكونات الكبة من لحمة وبصل وصنوبر وغيرها ومنهم من يرقق أقراص الكبة ويحشوها باللحم والصنوبر أو الجوز.


ولفتت الجدة السورية إلى أن المعاناة الوحيدة التي تواجهها في عملها هي عدم وجود مكان خاص لها للطبخ وتضطر لانتظار زوجتي ابنيها حتى تجهزان الطعام لأحفادها قبل أن تبدأ عملها، ولذلك فعملها يبدأ ليلاً بعد نوم الأطفال وفراغ المطبخ فليس بإمكانها افتتاح مطبخ خاص بها لضعف إمكانياتها.

وبحسب دراسة، أجرتها "إدارة الكوارث والطوارئ التركية" –آفاد-، تشكل النساء غالبية السكان السوريين المقيمين، وأكثر من نصفهم أعمارهم بين 19 و54 عاماً. كما أظهرت النّتائج أنّ هؤلاء النّساء ليست لديهنّ وظيفة، وبالتّالي لا يمكنهنّ كسب عيشهنّ. مع ذلك، كشفت الدّراسة أيضاً أنّ النّساء السوريات اللواتي لجأن إلى تركيا يُفضِّلن عدم العمل.



ترك تعليق

التعليق