ناجون بفارق لحظات


وصلت الستينية أم رضوان بصعوبة بالغة إلى مدينة عفرين برفقتها خمسة أطفال يتامى دون الـ 15 عاماً. تعدّ نفسها من المحظوظات لأنّها سرعان ما وجدت منزلاً غير مكسوٍّ تقطن فيه، إلّا أنّ معضلة المنزل لم تحلّ مشكلاتها، حيث تقضي نهارها لتسجيل بياناتها بين الجمعيات الخيرية علّها تحصل على مساعدة تعينها في إطعام الأطفال.

قالت أم رضوان لـ "اقتصاد" أنّها نجت والأطفال بأعجوبة، كان الفارق بين الموت والحياة دقائق معدودة لا أكثر، إذ أنّها غادرت منزلها في مدينة معرة النعمان قبل عشرة دقائق من تدميره جراء استهدافه ببرميل متفجر.

وأضافت أنّها تكبّدت 25 ألف ليرة سورية لقاء سيارات أجرة لجأت إليها بين المناطق لتصل وجهتها، علماً أنّ معظم السيارات التي ركبتها لم تأخذ منها المال.

دخلت منطقة إدلب في حالة هدوء نسبي منذ مطلع الشهر التاسع هذا العام، بعد عمليات عسكرية عنيفة تعرّضت لها مدن وبلدات المنطقة مصدرها الطيران الروسي وميليشيات نظام الأسد، أفضت إلى انسحاب مقاتلي القوى المعارضة وهيئة تحرير الشام من مدينة خان شيخون ومحيطها بعد تدميرها بالكامل.

وسرعان ما صعّدت روسيا عملياتها العسكرية وتقدّمت ميليشيات الأسد ميدانياً في العديد من القرى القريبة من مدينة معرة النعمان التي تتعرّض فيها منازل المدنيين والمدارس والمنشآت الصحية وطرق الاخلاء لاستهداف مباشر.

ليست المرة الأولى الّتي يتعرض فيها أبو جلال للتهجير القسري تحت وقع صواريخ الطائرات الروسية والبراميل المتفجرة وقذائف المدفعية العمياء.

تعرّض للتهجير من مسقط رأسه في منطقة حوض اليرموك بمحافظة درعا "جنوب سوريا" إلى قرى محافظة القنيطرة مطلع العام 2016 جرّاء سيطرة تنظيم "الدولة الإسلامية" على الحوض. وتعرّض للتهجير مرّة أخرى من القنيطرة منتصف العام الماضي 2018، ليستقر في منطقة ريف حماه الشمالي لأكثر من عام. ثمّ هُجّر إلى خان شيخون قاطناً فيها ثلاثة شهور، وبعدها إلى مدينة معرة النعمان مستقراً فيها لشهر ونصف فقط، ليستقر أخيراً في خيمةٍ صغيرة بقرية دير حسان المتاخمة للحدود التركية "شمال إدلب".

نجا وعائلته من الموت بأعجوبة حسبما قال لـ "اقتصاد"، إذ أنّه خرج من مدينة معرة النعمان متوجّهاً إلى طريق سرمدا ومعبر باب الهوى، ذات الطريق تعرّض للاستهداف بصواريخ الطائرات الحربية الروسية، سيارات كثيرة بجواره تعرّضت للإصابة، ارتقى عدد كبير من النازحين وجُرح آخرون.

يُضيف أبو جلال، بالرغم من اعتياده على النزوح، يتكرر السيناريو لديه وتتعمق آلامه أكثر جرّاء وقوفه عاجزاً أمام تأمين أبسط مستلزمات الحياة. ويعدّ هذا النزوح هو الأصعب بسبب حصوله في فصل الشتاء، فلا يستطيع تأمين مدفأة لأطفاله الثلاثة وزوجته، وهو بالكاد قادر على تأمين بعض الأغذية من خلال أصدقائه في الجمعيات الخيرية.

تجاوز عدد المهجرين من مدينة معرة النعمان ومحيطها منذ تشرين الثاني هذا العام 203،000 نسمة، وبلغ عدد الضحايا المدنيين أكثر من 225 إنسان بينهم 74 طفلاً وطفلة وفقاً لبيانات فريق منسقي الاستجابة.

النشطاء في محافظة إدلب أكّدوا أنّ المدينة باتت فارغةً من سكانها الّذين لاذوا بالفرار بشكلٍ جماعي تاركين خلفهم أكثر مقتنياتهم المنزلية ومتوجهين إلى بحر المخيمات على الحدود السورية التركية بالقرب من معبر باب الهوى وإلى مناطق عفرين وإعزاز والباب وجرابلس "شمالي حلب".

عبد الرحمن ناشط اغاثي قال لـ "اقتصاد" إنّ الحدود ومساجد مدن الدانا وسرمدا، باتت تغصّ بالمهجرين، وعددهم الكبير خارج طاقة استيعاب المنظمات الاغاثية والمجالس المحلية في محافظة ادلب وفي منطقة شمال حلب الخاضعة لإدارة الحكومة المؤقتة. كما أنّ محاولات المهجّرين الدخول إلى الأراضي التركية تبوء بالفشل بسبب الإجراءات المشدّدة وظروف الطقس.

ويُنذر هذا الوضع بكارثة إنسانية جرّاء تعطّل العملية التعليمية وتفاقم انتشار البطالة وانعدام كلّي في الانتاج المحلي وخسارة مساحات كبيرة من الأراضي الزراعية.

ويشير الناشط إلى أنّ المبادرات الفردية تساهم بشكلٍ كبير في مساعدة الناس وتخفيف الأعباء، لا سيما وقد فُقد الأمل من المساعدات الأممية -التي كانت بالكاد تكفي لسد الرمق-، جرّاء الفيتو "الروسي – الصيني، بالأسبوع الفائت، ضد مشروع قرار لتمديد الترخيص الممنوح للأمم المتحدة لتقديم المساعدات الإنسانية العابرة للحدود إلى سوريا والذي ينتهي مطلع العام 2020.

يعيش في ما تبقى من مناطق محافظة إدلب "آخر جيوب المعارضة السورية"، أكثر من 3.5 مليون إنسان، حوالي 40% منهم مهجّرون سابقاً من محافظات "دمشق وريف دمشق ودرعا والقنيطرة وحمص وحماه وحلب وغيرها"، يعيشون أسوأ مرحلة مرّت عليهم منذ العام 2011، وأكثرهم يعتمدون في معيشتهم على المساعدات الإنسانية منذ مدّة طويلة.

نجا جواد من الموت بفارق لحظات، انطلق في رحلة تهجيره صباحاً من بلدة جرجناز التي سيطرة عليها لاحقاً ميليشيات الأسد، الطقس بارد جدّاً، الضباب يُغطّي المحيط ويمنع الرؤية عن سائقي السيارات، بالقرب من مدينة معرة النعمان وعلى وقع أصوات الصواريخ والانفجارات وقع حادث سير، تدهورت ثلاثة سيارات تقلّ مهجّرين، أُصيب مستقلّوها بجروحٍ خطيرة. ساعد جواد فريق الدفاع المدني في عملية الإنقاذ وإيصال المصابين إلى النقاط الطبية في مدينة إدلب، ومن ثم أكمل طريقه إلى بلدة ترمانين حيث يقطن أقرباؤه.

بسبب الكارثة التي تشهدها عموم محافظة ادلب وجّهت المنظمات المحلية فيها نداءات استغاثة عديدة، في حين تستمر المعارك بين مقاتلي المعارضة السورية ونظام الأسد وتواصل روسيا غاراتها الجوّية لإفراغ محيط الطريق الدولي M4 من السكان بعد تدمير مدنهم وبلداتهم.

ترك تعليق

التعليق