اقتصاديات.. ثورة ما قبل الجوع بقليل


عبر التاريخ، لم تنتج ثورة الجياع أية تغييرات كبيرة في الأنظمة السياسية، بل هي من أسهل الثورات التي يمكن القضاء عليها، سواء بالقمع، أو من خلال الاستجابة لمطالب هؤلاء الجائعين.

وما يجري في محافظة السويداء، لا يمكن وصفه بأنه ثورة جياع، وإن كانت الشعارات المرفوعة، تشير إلى هذا الأمر، إلا أنه في العمق يخفي مطالب أكبر من حاجات البطن.. هو بصورة أدق ثورة على الظلم والفساد والاستبداد..

ولعل النظام هو الأقدر على قراءة هذا المشهد ضمن هذه الصورة، وخصوصاً في مجتمع متناسق ومنظم، كما هو مجتمع محافظة السويداء، الذي لا يمكن أن يجوع أفراده بالمعنى الحرفي للكلمة، ولكنه ممكن أن يستخدم مفردة "بدنا نعيش"، التي تخفي خلفها معاني أكثر من لقمة العيش ورغيف الخبز..

وبناء عليه، لا يمكن النظر إلى ما يجري في السويداء على أنه حركة احتجاج على ارتفاع الأسعار فقط، بل يمكن القول، إن هذا هو الشكل الوحيد المتاح اليوم للاحتجاج، والذي لا يمكن وصفه بالإرهاب والعمالة للدول الخارجية.. كما أن النظام لا يستطيع قمعه بالصورة التي قمع بها احتجاجات السوريين المطالبة بالحرية والكرامة.. لهذا يجد النظام نفسه في مأزق حقيقي، خوفاً من أن تتطور هذه النوعية من الاحتجاجات وتنتشر في باقي المناطق.. سيما وأن مبررها أمر واقع ولا يستطيع أحد نكرانه..

وعلى جانب آخر، يروي الكثير من الناشطين أن تجويع المجتمع السوري، أمر مقصود ومدروس، منذ فترة طويلة، وهو تم بإشراف إيران وحزب الله بشكل مباشر، وكانت تتحدث التقارير خلال الأشهر الماضية، عن قيام مجموعات تابعة لهما، بسحب كميات كبيرة من الليرة السورية من الأسواق، بهدف استخدامها لاحقاً في مشروع لم يكن أحد يعرف ماهيته..

لكن هؤلاء الناشطين، يشيرون اليوم، إلى أن الاستعدادات بدأت لاستخدام هذه الأموال، في عمليات تشييع المجتمع السوري تحت ضغط الحاجة المعاشية، وأن هناك مجموعات من رجال الدين الشيعة، يرافقهم وجهاء من أبناء المناطق، يطوفون فيها على العائلات، ويقدمون لهم المساعدات المالية، المترافقة مع الموعظة والدعوة للتشيع، ومع الوعد باستمرار هذه المساعدات بشكل شهري، مقابل الاطمئنان على مدى التزام هذه العائلات بالمذهب الشيعي..

هذا الكلام قد يبدو غير قابل للتصديق ضمن الظروف التي تعيشها إيران نفسها، والتي تعاني من أوضاع اقتصادية لا تقل سوءاً عن سوريا، لكن لو علمنا منطق المشروع الإيراني في المنطقة، لعرفنا أن جل أدواته وأهدافه وطموحه، لا تخرج عن هذا الإطار.. وهو مشروع قديم، وقد حاولت المستشارية الثقافية الإيرانية في دمشق في التسعينيات من القرن الماضي، أن تلعب هذا الدور وبإشراف السلطة، عندما سمح لها بالتمدد بين طلاب جامعة دمشق، من الطوائف غير الشيعية، مقابل رواتب شهرية، ما لبثت أن أثارت ضجة داخل المجتمع السوري، ما اضطر حافظ الأسد لإيقاف نشاط المستشارية الإيرانية..

لذلك يمكن القول، إن ثورة "بدنا نعيش" في السويداء، هي ثورة ما قبل الجوع بقليل، وهي ثورة علنية بكل معنى الكلمة، بحيث لا يمكن إسكاتها بفتات المال الإيراني الذي ينتظر على أبواب الجائعين بصمت..

اصرخوا.. فإن الصراخ بحد ذاته كرامة.. أما الصمت فهو ذل وخنوع..



ترك تعليق

التعليق