إلى ليبيا.. والسلام


ودعت صديقي في آخر سهرةٍ جمعتنا، تكلمنا كثيراً حول حديث الشارع الأخير، سرعان ما اعترف مُرتبكاً باقتراب رحيله مع المغادرين، مُستخدماً تبريرات عديدة متناقضة بعد أسئلتي الحادة.

إذ كانت أجوبته بصوتٍ خافتٍ متردد، "الجهاد واحدٌ في كل مكان"، "هنا أو هناك العدو والحليف ذاته"، "إن انتصرنا هناك سننتصر هنا"، "الوطنية لا تعني أن نؤمن بحدود (سايكس بيكو)"، "لا علاقة للثورة بالخلافة".. ودخلنا في صمتٍ لخمس دقائق، كلانا ينتظر الآخر لينطق.

إن أكدت وزارة الدفاع في "الجيش الوطني السوري"، أو تمسكت بالنفي، لم يعد مهماً، فمنذ البداية في مطلع هذا العام لم يكن مستوى النفي متناسباً مع حجم الأخبار حول إرسال مقاتلين سوريين إلى ليبيا لمساندة حكومة الوفاق الشرعية ومنع جيش حفتر من بلوغ مدينة طرابلس.

من المؤسف أن تتسع الفجوة بين الشعب السوري المكلوم والجيش الذي أمِلَ به الكثيرون خيراً عند تأسيسه، لا سيما وأنه مستمرٌ دون الإعلان عن أية إجراءات تحترم الرأي العام وتُبين له "من؟، وكيف؟، ولماذا؟".

قدرت الأمم المتحدة الأسبوع الماضي عدد السوريين الواصلين الى ليبيا بـ 2000 شخص، وأكد ذلك العديد من الوسائل الإعلامية "المحلية والأجنبية - الحليفة والمعادية".

لكن قاطني المناطق المحررة ليسوا بحاجة لمصدرٍ يُؤكد ما يعيشونه، إذ أنهم يشاركون في حفلات الوداع الضيقة والمغلقة، ومنهم من يُعبّر علناً عن سخطه جراء إرسال يافعٍ مُصاب بإعاقة في قدمه ذهب غفلةً عن والده الذي يطرق الأبواب سعياً لعودته.

رياض "اسم مستعار" مُهجر من مدينة حلب قال لـ "اقتصاد" إن سنةً كاملةً لن تكفيه لتوفير مبلغ 200 دولار أمريكي، وأُتيحت له فرصة حالياً يحصل من خلالها على 2000 دولار شهرياً ولمدة ستة شهور، يستطيع أن يبني بها منزلاً يُخلّصه من مشقات الخيام ويفتتح مشروعاً يقيه العوز.

وأضاف متفائلاً، أن زوجته وأطفاله الأربعة سيحصلون على 45 ألف دولار -حسبما يُشاع- في حال تعرض للقتل هناك، وبتصوره أنه مبلغ كافٍ لمنع العوز عنهم لفترة طويلة جداً، في حين أنه الآن عاجز عن تقديم أي شيء لهم.

أمّا محمد الذي تعرض للحصار لخمس سنوات في ريف دمشق قبل تهجيره إلى الشمال، يرى الذهاب إلى ليبيا كجواز سفر وتأشيرة مجانية كونه ينوي الوصول إلى مصر ليلتقي عائلته اللاجئة هناك منذ العام 2012، إذ أنه لم يجد سبيلاً سوى ذلك بعد أن قام بعدّة محاولات فاشلة لعبور الحدود إلى تركيا.

وحول المخاطر التي قد يتعرض لها، اختصر محمد قائلاً: "ليش نحن عايشين".

يشاركه عمار ذات الدافع، لكن إلى ألمانيا، واصفاً إياها بحلمه الذي يجب أن يُحقق، ويريد أن يعيش بدون حواجز أمنية وعسكرية، وبعيداً عن ارتفاع سعر الليرة السورية وهبوطها، وتجنباً لابتزاز الباعة بلا رقيب أو حسيب.

يستنكر السوريون في الداخل ذهاب آخرين للمشاركة بالعمليات القتالية الليبية في الوقت الذي تستمر فيه آلات الإجرام الأسدية والروسية باستهداف المدنيين وتهجيرهم، لكن تبقى وجهات النظر مختلفة حول "لمن يجب أن يوجه اللوم" بخصوص ذلك، للأفراد أم لمن سهّل لهم الأمر وفتح الباب.

أخيراً نطق صديقي منفعلاً، "أي جهادٍ وأي ثورةٍ تخصني في ليبيا، إنه الهروب من العجز واللامنطق، فأين المنطق في الدعم النفسي لطالما المسببات موجودة، وأين المنطق بأن أُحاصر، أُقاتل، أصمد، أُهجّر" وفي النهاية يصل القائد والإغاثي إلى تركيا ليفتتح مشروعه التجاري بعد أن تركني مشرداً مشتتاً لا حول لي ولا قوة وسط خياراتٍ معدومة، والأنكى أنه يُنظّر عبر الفيسبوك ليلاً نهاراً طالباً من الناس الصمود تحت طائرات الحقد الروسية وسط صمت الجميع، أين المنطق في إعادة تدوير ذات السياسيين الذين أثبتوا فشلهم على مدار سنوات ودعوتهم لحضور المؤتمرات بلا شرعية شعبية، وأين المنطق بأن أبلغ 35 عاماً ولا زلت بلا زوجة، أين المنطق بعدم تفكير أحد بأعباء الشباب، البطالة، الفساد، ارتفاع نسبة الفقر، أين المنطق بأن تكون الأولوية في الإغاثة للمتزوج، وهو الذي يقضي ليله مُمارساً مشروع إنجاب الأطفال، وأنا أُمضي ليلي ونهاري عاجزاً مقهوراً.".

وختم كلامه بانفعال أشد قائلاً: "المنطق ألا تُوفر فرصة الرزق بعد أن جعلونا هنا أو هناك لا نختلف بشيء إلّا في التسعيرة، إلى ليبيا يا صديقي، إلى ليبيا، والسلام..".

ترك تعليق

التعليق