اقتصاديات.. ما الذي يحدث في اقتصاد النظام؟


الكثيرون يتساءلون اليوم عن المتغيرات الكبيرة التي حدثت في اقتصاد النظام خلال الأشهر الخمسة الأخيرة، وأدت إلى هذا الانهيار الدراماتيكي لليرة السورية، بينما الوقائع منذ مطلع العام الماضي لم تكن تشير إلى وجود مثل هذا الانهيار السريع، وأقصى ما كنا نستشفه من تصريحات مسؤولي الحكومة، هو وجود أزمة تمويل بالدولار للمستوردات الأساسية، وعلى رأسها النفط، بعد توقف الخط الإئتماني الإيراني منتصف العام 2018، وأن هذه الأزمة سوف تضغط على موارد الحكومة وتحد من قدرتها على تمويل أي خدمات جديدة..

لكن لو أردنا أن نمسك القصة من بدايتها، فلا بد من العودة إلى تاريخ 10 أيلول الماضي، أي قبل نحو أربعة أشهر، عندما هبطت الليرة السورية أمام الدولار، إلى مستوى قياسي، غير مسبوق في تاريخ البلاد، كان في ذلك الوقت بحدود 700 ليرة، بعد أن كان قبل أيام يراوح عند 600 ليرة، وأحياناً دون هذا الرقم بقليل..

هذا التاريخ بحد ذاته، أي مطلع أيلول الماضي، لم يكن أكثر من مؤشر على ما سبقه من وقائع، كانت تشير إلى أن النظام يرغب بالفعل بهبوط الليرة، وذلك عندما تركها تنهار تدريجياً، من 450 ليرة أمام الدولار منتصف العام 2018، إلى ما فوق 500 ليرة مع مطلع العام 2019، ثم بعد ذلك كانت تفقد شهرياً بين 10 إلى 20 ليرة، إلى أن وصلت للانهيار الكبير في أيلول، والذي واجهه النظام بحركة استعراضية، عبر مبادرة قطاع الأعمال مطلع تشرين الأول الماضي، التي ما لبثت أن توقفت بعد أيام من انطلاقتها، على الرغم من أنها أدت إلى وقف تدهور الليرة وتحسن سعر صرفها مقابل الدولار..

الكثيرون غفلوا عن التساؤل، عن سبب توقف مبادرة قطاع الأعمال، مع أنها كانت حلاً جيداً، وهي بالفعل كان من شأنها أن تحافظ على استقرار سعر صرف الليرة، لو كان هناك نية صادقة من النظام بتفعيلها واستمرارها.. لكن ما حدث، وكما قلنا، إن النظام كان يرغب بالفعل بهبوط الليرة، وهو أمر أشرنا إليه في مقال منفصل، في شهر أيلول الأول الماضي، عندما ذكرنا ونقلاً عن مصدر مقرب من أجهزة المخابرات، بأن النظام اتخذ قراراً في شهر شباط من العام الماضي، بالسماح بهبوط الليرة أمام الدولار وحتى نهاية العام 2019، إلى ما دون الـ 1000 ليرة، ثم المحافظة على هذا الرقم بشتى السبل، خوفاً من الانهيار الكامل إذا ما تجاوزته.. وهو ما شاهدناه عندما تجاوز سعر الصرف 1200 ليرة مقابل الدولار، بعد بضعة أيام من تجاوزه حاجز الـ 1000 ليرة.

إذاً، دعونا نتفق في البداية، أن هبوط الليرة مقابل الدولار إلى 1000 ليرة، هو أمر مخطط ومدروس أو على الأقل، مرغوب من قبل النظام.. لكن السؤال الذي يتبادر إلى الذهن مباشرة، ما هي الفائدة التي سوف يجنيها النظام من هذا الهبوط..؟

أولى الفوائد، أن النظام أيقن بأنه محاصر خارجياً لا محالة، وأن عمليات تمويل مستورداته أصبحت تكلفه ضعف التكلفة الحقيقية، بسبب اضطراره للجوء إلى وسطاء من أجل التحايل على العقوبات، وبالتالي فإن ذلك يتطلب كتلة نقدية كبيرة بالدولار غير متوفرة لديه.. والحل الأمثل للهروب من ذلك، هو الضغط على الشعب في الداخل، وجعله يتحمل أثر هذه العقوبات بالكامل، حتى لو أدى الأمر لتجويعه.. ومن ثم الاستفادة من الكتلة النقدية المحدودة، الموجودة لديه بالدولار، في تمويل مصروفات الحكومة، وكتلة الرواتب والأجور، بالإضافة إلى تمويل اقتصاد الحرب.. بمعنى أن تراجع سعر صرف الليرة من 500 إلى 1000 ليرة مقابل الدولار، يعني تراجع مصروفات الحكومة إلى النصف.. وهو ما يمكن إدراكه وفهمه من خلال الموازنة العام للدولة للعام 2020، التي تم إقرارها في الربع الأخير من العام الماضي، بمبلغ 4 تريليون ليرة، والتي كانت تساوي حينها نحو 7 مليار دولار، بينما حالياً هي أقل من 4 مليار دولار..

أما الفائدة الثانية التي سيجنيها النظام، فهي تخص أمراء الحرب، الذين استطاعوا جمع أموال طائلة من مختلف العملات، السورية والصعبة، خلال السنوات الثماني الماضية، وبعضهم تجار وشبيحة ورجال مخابرات كبار، مرتبطين مباشرة ببشار الأسد وأركان النظام..

فهؤلاء، أياً كان نوع العملات التي بحوزتهم، فسوف يستفيدون من هبوط سعر صرف الليرة أمام الدولار.. وبحسب المعلومات، فإن هؤلاء خلال الشهر الماضي، لعبوا دوراً كبيراً في دك الإسفين الأخير في سعر صرف الليرة، الذي جعلها تتجاوز حاجز الـ 1000 ليرة أمام الدولار، من خلال عمليات المضاربة، أو استبدال ما بحوزتهم من ليرة بدولار.. لذلك لم يصدر بشار الأسد المرسوم المتوقع بتجريم التعامل بالدولار، إلا بعد أن أنهى هؤلاء كل العمليات اللازمة للحفاظ على ما بحوزتهم من أموال وتحصينها.. سيما لو عرفنا أن المطالبة بالعود إلى قوانين الثمانينيات، التي كانت تجرم التعامل بغير الليرة السورية، بدأت منتصف العام الماضي، مع تحرك سعر الصرف هبوطاً، إلا أن بشار الأسد لم يستجب لهذه المطالبات، سوى مؤخراً.. فلماذا لم يتخذ مثل هذا القرار سابقاً، والذي كان من شأنه أن يوقف تدهور الليرة السورية..؟

أخيراً، نستطيع القول، إن بشار الأسد وأركان نظامه، اليوم، هم الوحيدون الذين يملكون الدولار في سوريا، بعد أن منعوا على غيرهم أن يمتلكه.. وهذا يعني فيما يعنيه، أن رقاب الشعب السوري سوف تظل في قبضتهم.. وهم من سيحددون سعر الصرف وفقاً للكتلة النقدية من الدولار الموجودة بحوزتهم، والفترة الزمنية التي يتوقعون فيها أن يستمر الحصار عليهم..

الآن يناسبهم، سعر صرف الدولار بألف ليرة، لكن بعد عدة أشهر قد يشعرون أنهم بحاجة إلى تخفيضه أكثر من ذلك، إلى 1500 ليرة مثلاً، وذلك إذا لم تمتد الأيادي لنجدتهم.. والشعب السوري هو الرهينة التي بين أيديهم، وعلى المجتمع الدولي أن يتحمل مسؤولية تجويع هذا الشعب.. وخصوصاً وهم على يقين أن ثورات الجياع لا تقلب أنظمة حكم، وأقصى ما تفعله، هو موت بضعة جوعى، لكن في المقابل سوف تصبح الناس أكثر استعداداً لبيع أنفسها للنظام، وبثمن بخس لا يتعدى الحصول على لقمة العيش وإشباع رغبات البطن.. وهذا ما يريده النظام، بعد أن خدع جمهوره، بوعدهم بحياة أفضل بعد أن تؤول أمور السيطرة إليه، وإذ بهم يفاجئون بالأسوأ.. فأيهما أفضل بالنسبة للنظام، أن يشبع هذا الجمهور، ويبحث عن الامتيازات التي تم وعده بها، أم أن يجوع ويستمر بالبحث عن لقمة العيش..؟!

هذا باعتقادنا جوهر ما يحدث في اقتصاد النظام..

ترك تعليق

التعليق