اقتصاديات.. طلال أبو غزالة، كما يجب أن نفهمه


أتابع طلال أبو غزالة منذ سنوات طويلة.. والرجل بلا شك فهيم ودارس، ومعلوماته تستحق الاهتمام والتأمل فيها، فهو جمعها عبر خبرات كثيرة، من مناصبه التي تولاها في المؤسسات الدولية، بالإضافة إلى اطلاعه الواسع على حركة الاقتصاد والسياسة في العالم، وليس آخرها بالطبع، علاقاته مع كبار المسؤولين الدوليين المؤثرين..

ودائماً ما كان يلفت انتباهي بسيرة أبو غزالة، هو حديثه عن نفسه وقصة نجاحه، التي وكما يرويها لا بد أن تجعل عيناك تدمعان، وخصوصاً عندما يعرض مشاهد الفقر والحرمان التي عاشها في جنوب لبنان، إبان انتقاله للعيش مع أسرته بعد النكبة في العام 1947، ولم يكن يتجاوز في حينها عمر السبع سنوات، ثم كيف قاوم هذه الأوضاع بالتفوق والعلم، ليصل إلى أعلى المراتب، وينتشل أسرته من الفقر، ويغدو من رجال الأعمال المتفوقين والكبار..

قصة أبو غزالة، كنت أرى أنها يجب أن تكون ملهماً للشباب العربي والفلسطيني على وجه الخصوص، سيما وأنه يمثل تياراً نادراً في العمل الفلسطيني المقاوم للاحتلال، لا يقوم على الأعمال السياسية والحزبية والعسكرية، ولا على الانخراط في فرق الدبكة والتراث الفلسطيني، وإنما على العلم والمعرفة، والانتصار على العدو بقوة العقل والتأثير..

ولا شك أن أبو غزالة، مارس هذا الفعل المقاوم، عندما رفض مصافحة المسؤولين الإسرائيليين في المؤتمرات الدولية، وفي اللجان والمؤسسات الدولية التي كان يتولى إدارتها، وهو بحسب ما يروي، رفض تولي الكثير من المناصب السياسية في الأردن، ومنها منصب رئيس الوزراء، خوفاً من أن يدفعه ذلك للتعاون مع الإسرائيليين، والاضطرار لمصافحتهم.

وأبو غزالة من جهة ثانية، وضمن هذا السياق، بعيد كل البعد عن المواقف السياسية، إلا ما يتعلق منها بالوضع الفلسطيني فقط، بينما لا تجده صاحب موقف سياسي تجاه أمريكا أو أوروبا التي تدعم إسرائيل، مثلاً.. ومن وجهة نظره البراغماتية، أن هذه الدول، لا يفترض بالعاقل أن يناهضها وينصب نفسه عدواً لها، لأنها دول ديموقراطية، ودول مؤسسات، ودول حضارة وعلم، وموقف شعبها يختلف كثيراً عن موقف قياداتها السياسية..

وعلى المستوى العربي، يتخذ أبو غزالة ذات الموقف، من حيث عدم التدخل أو إبداء الرأي في مواقف الأنظمة السياسية، وديكتاتورياتها المتوحشة، وبنفس الوقت، قلما تجده مادحاً، لأحد الأنظمة السياسية العربية.. بل هو غالباً يتخذ موقف الحياد، وكأنه لا ينتمي لهذه الأمة..

إذاً، وكما يبدو، فنحن أمام شخصية فريدة من نوعها، يستطيع أن يلعب في جميع المواقع، بما فيها حلبة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، دون أن ينقص ذلك من قدره شيئاً، بل على العكس، هو يستقبل اليوم بحفاوة، في جميع الدول التي يزورها، وتنصب له منصات الحوار، والكل يجلس مشدوهاً للاستماع لتوقعاته الاقتصادية وحديثه عن مستقبل التكنولوجيا في العالم، بينما تؤخذ هذه التوقعات والرؤى بعين الاعتبار وعلى جميع المستويات..

بالنسبة للوضع السوري وموقفه منه، لم يصدر عن الرجل، منذ العام 2011 وحتى اليوم أي رأي أو موقف واضح، بل هو زار سوريا عدة مرات خلال هذه الفترة، والتقى بكبار مسؤولي النظام، الذي تربطه ببعضهم علاقات متينة.. وقدم في العام 2018، مداخلة في أحد المؤتمرات، أبدى فيها استعداد مؤسسته، التي تحمل اسمه، لأن تساهم بالدراسات اللازمة، لوضع خطة اقتصادية تساعد النظام في النهوض بعد الحرب.. وفي المقابل لم يصدر عنه أي تصريح يذم فيه الثورة أو المعارضة، ويحملها مسؤولية الأوضاع التي وصلت إليها سوريا..

ولعل تصريحه الذي أطلقه مؤخراً عن سوريا، بأنها أقل الدول مديونية في العالم، من خلال برنامجه الجديد على قناة روسيا اليوم، والذي أزعج الكثير من أبناء الثورة السورية، هو الموقف الوحيد الذي يشير إلى انحيازه للنظام، وفقاً للمعارضة، لكن لدى مناقشة هذه المعلومة، فإن الرجل يتحدث وفقاً لمعلومات رسمية.. فلم يعلن النظام أنه مدين لأحد حتى اليوم، كما أن أياً من الدول، لم تقل أن لها ديوناً على سوريا، بما فيها إيران وروسيا..

نستطيع القول في الختام، أن طلال أبو غزالة يريد أن يكون صديق الجميع باستثناء إسرائيل.. والأدهى من ذلك، أنه يوهم كل واحد من هؤلاء الجميع بأنه ينحاز له.. فـ "روسيا اليوم" التي منحته مساحة جيدة على قناتها، كانت تأمل أن يستخدمها كمنصة لمهاجمة السياسة والاقتصاد الأمريكيين، وإذ به يقول على ذات القناة بأن الاقتصاد الأمريكي من الصعب هزيمته، وأن روسيا من الصعب أن تعود إلى قوة عظمى كما كانت سابقاً أيام الاتحاد السوفييتي.. وعندما ذهب إلى الصين، ونقل جزءاً من استثماراته إليها، ظن الصينيون أنه سيقنع العالم بقرب انهيار الاقتصاد الأمريكي، لكنه أعلن من المنبر الصيني، بأن الاقتصاد الأمريكي قوي بقدراته العسكرية التي من الصعب هزيمتها، وبالتالي على أي دولة تفكر بالمواجهة الاقتصادية مع أمريكا، أن تنظر بإمعان إلى هذه القوة المدمرة التي تمتلكها.. ومع ذلك يرى أبو غزالة أن الصين قوة اقتصادية لا يستهان بها، وأن أمريكا عاجلاً أم آجلاً، سوف تنصاع للجلوس معها، لصياغة نظام عالمي جديد، يقبل القسمة على اثنين، بعد أكثر من عشرين عاماً من انفراد أمريكا بقيادة هذا النظام، في أعقاب انهيار الاتحاد السوفييتي نهاية العام 1992.

باختصار، طلال أبو غزالة، رجل لعيب وموهوب.. وجدير بقراءة أفكاره وتنظيراته الاقتصادية والعلمية، سواء اتفقنا معها أو اختلفنا.. وحبذا لو نبعده عن مقاييسنا السياسية التي لا تختلف كثيراً عن المقصلة..

ترك تعليق

التعليق