اقتصاديات.. حلب على مائدة اللئام


منذ ما قبل العام 2011، كانت حصة محافظة حلب من الموازنة العامة والاستثمارية للدولة، أقل من حصة محافظة طرطوس أو اللاذقية، بالقياس إلى عدد السكان والمساحة، وهو ما كان يثير التساؤلات باستمرار، التي وصلت في أحد المرات إلى مجلس الشعب، عندما وقف أحد الأعضاء عن حلب مطالباً الحكومة بتقديم تفسير منطقي، لهذا الخلل في التوزيع.

ويقول هذا "العضو" الذي أصبح فيما بعد معارضاً ومهجراً، في تصريح خاص لـ "اقتصاد"، إنه عندما قال هذا الكلام تحت قبة المجلس، اشرأبت الأعناق جميعها نحوه، وأخذت ترمقه العيون المخابراتية، كما لو أنها تتوعده بالويل بعد نهاية الجلسة..

ويتابع: "تمنيت في تلك اللحظة لو تنشق الأرض وتبتلعني، حيث ساد صمت مطبق في المجلس، وصرت (أبربر) لوحدي محاولاً ترقيع سؤالي بالحديث عن أن السيد الرئيس يحب حلب كثيراً وقد زارها أكثر من مرة، وأوصى حكومته بها خيراً، وأن ذلك يتعارض مع توجيهاته".

ويضيف هذا العضو السابق، أن المشهد لم ينته على هذا النحو، بل عندما خرج إلى الاستراحة، وقف وحيداً، ولم يجرؤ أحد على الاقتراب منه،  وكان كلما حاول الانضمام إلى مجموعة من الواقفين من زملائه، انفضوا عنه وكأنه "جربان"..

بالأمس، ذهب رئيس الوزراء عماد خميس إلى حلب مع وزرائه، وأعلن من هناك أنه جاء وبحوزته مبلغ 140 مليار ليرة سورية، أي أقل من 140 مليون دولار، نصفها لقطاع الكهرباء، والباقي لتنمية القطاعات الخدمية، بحسب ما قالت وسائل إعلام النظام.

وهو مبلغ يعادل أقل من نصف ما تم صرفه على طرطوس في العامين الأخيرين، من مشاريع استثمارية وخدمية، وهي المحافظة التي لم تتعرض لـ "خدش" واحد في أبنيتها، وفي بنيتها التحتية.

وفي المقابل، يشكك مراقبون، أن يكون خميس قد حمل هذا المبلغ إلى حلب سوى على وسائل الإعلام.. حيث كتب أحد الصحفيين، ممن كانوا يعملون سابقاً في جريدة "الجماهير" الحلبية، أنه سبق لرئيس الوزراء أن أعلن عن تخصيص أموال لحلب، في أعقاب إعادة السيطرة عليها مطلع العام 2016، من أجل إعادة فتح الطرق وتجهيز شبكة المياه والكهرباء في المدينة، بالإضافة إلى إجراء بعض عمليات الترميم للمباني الحكومية، التي لم يرمم منها سوى مباني الحزب والمخابرات، على حد قوله.. ويشير هذا الصحفي ونقلاً عن مصادر خاصة في المحافظة، أن حلب لم يصلها من أموال خميس أي شي، ولم تتلق، خلال السنوات الأربع الماضية،  سوى رواتب الموظفين في الدولة، وبعض فتات الأموال لزوم تأمين الخبز والحد الأدنى من المحروقات في المدينة، بينما لم يبذل النظام حتى الآن أي مال، في سبيل ترميم المباني المدمرة من المرافق الحكومية الحيوية، كالمشافي والمدارس وغيرها.. حتى أن الأعطال الكهربائية وشبكات المياه كان الأهالي يصلحونها على نفقتهم الخاصة.

وتقول إحصاءات غير رسمية، إن مدينة حلب يعيش فيها حالياً نحو مليون نسمة، من نحو أكثر من 5 ملايين نسمة قبل العام 2011، وأغلب سكانها، مهجرون في تركيا، بينما يجري الحديث عن نحو 500 ألف نازح في المنطقة الساحلية، يرفضون العودة إلى مدينتهم لأسباب مختلفة.

والجدير بالذكر، أن المحللين الاقتصاديين يقولون بأن حلب بحاجة لمبلغ 10 مليارات دولار، من أجل إعادة إصلاح بنيتها التحتية التي دمرها النظام بالقصف العشوائي، كما وبحاجة لمبلغ مماثل من أجل إعادة الحياة الاقتصادية للمدينة، وتشجيع سكانها للعودة إليها.. وهو ما لن يفعله النظام، بحسب الكثير من المراقبين، الذين يرون أن تهجير حلب من سكانها، إنما هو أبرز المخططات التي كانت تعمل عليها إيران، ومن الأمنيات التي لطالما راودت بشار الأسد منذ مطلع حكمه.. حيث أن هذه الكتلة السكانية الضخمة، التي توصف بأنها "خزان السنة" في سوريا، والمقدرة بأكثر من 8 ملايين نسمة، كانت تقلقه على الدوام، وقد حاول إضعافها، بقراراته الاقتصادية الانفتاحية، بعد العام 2005.. ثم حاول إخضاعها للحكم العسكري بعد العام 2009، عندما أصبحت تدار بشكل مباشر من قبل أجهزة الأمن، ومحافظ طائفي، لم يكن همه سوى إجبار صناعيي حلب للانتقال بمصانعهم إلى المنطقة الساحلية.. وهو سر انزعاج النظام اليوم من انتقال هذه المصانع إلى تركيا.

هامش1: في عام 2010، كنت أعمل على فيلم وثائقي عن الصناعة في حلب، حيث مكثت في المدينة لمدة أسبوع متنقلاً بين المسؤولين وأغلب صناعييها الكبار، بمن فيهم فارس الشهابي، الذي لا يزال يشغل منصب رئيس غرفة صناعة حلب منذ ذلك التاريخ وحتى اليوم.. ويومها، وأمام عجزي عن فهم سر كل هذه المشاكل والعراقيل التي يعانيها هؤلاء الصناعيون، جذبني أحدهم جانباً، وقال لي، إن أجهزة الأمن تستدعيهم الواحد تلو الآخر، وتطلب منهم بـ "ود" لو أنهم ينتقلون بجزء من مصانعهم إلى المنطقة الساحلية، وأن ذلك سوف يساعدهم في حلحلة الكثير من المشاكل التي يصرخون منها الآن..

هامش2: هذا الصناعي الذي قال لي هذا الكلام، هو من الكبار، ودفع ثمناً باهظاً لعدم انصياعه لرغبات النظام منذ ما قبل الثورة.. وهو الآن يعمل في إحدى الدول العربية، ويحصد النجاح تلو الآخر.. مادياً ومعنوياً.

ترك تعليق

التعليق