"عبد الرحمن درويش".. مهجّر من الغوطة، يصنع العيون


يواصل "عبد الرحمن درويش" وهو مهجّر من منطقة "الغوطة الشرقية" بريف دمشق، العمل بمهنته الأساسية "فني تعويضات سنية" التي كان يعمل بها في ظروف الحصار القاسية للمنطقة، إضافةً إلى العمل بمجال تصنيع العيون الاصطناعية "الزجاجية" وتركيبها، والتي كان قد تعلمها في ذلك الوقت بهدف خدمة مجتمعه في إنقاذ كثيرين ممن فقدوا عيونهم، ومن هم في حاجة ماسة لتركيب عيون اصطناعية.

وحول مهنته الجديدة قال "درويش" البالغ من العمر (40 عاماً)، والمقيم حالياً في مدينة "عفرين" بريف حلب الشمالي، في تصريحات لـ"اقتصاد"، إنّه اندفع نحو تصنيع العيون الزجاجية بسبب تزايد أعداد من فقدوا عيونهم من أطفال ونساء ورجال في منطقة "الغوطة"، إضافةً إلى الأثر السلبي الذي يعكسه ذلك على حياتهم اليومية لاسيما الأطفال والفتيات، وعدم وجود أي مركز مُختص بصناعة العيون التجميلية.

وأضاف: "أمام هذا الواقع شعرت بأنّني أستطيع خوض هذا المجال وبدأت بالبحث في شبكة الإنترنت عن طرق صناعة العيون التجميلية (ثلاثية الأبعاد) والمعروفة أيضاً باسم العيون الزجاجية، وعن المواد المستخدمة والأدوات اللازمة لذلك، فوجدت أنّ هذه الصناعة قريبة إلى حدٍ كبير من مهنتي الأصلية".

وأوضح محدثنا أنّ أولى الخطوات التي بدأها في مشواره المهني الجديد تمثلت بمشاهدة عشرات الفيديوهات والتجارب عبر اليوتيوب، بعدها انتقل لتطبيق ما شاهده في مخبر الأسنان الخاص به مستفيداً في ذلك من أجهزته وأدواته والمواد المستخدمة لصناعة أطقم الأسنان، ولكون المواد نفسها تقريباً استطاع تكييفها لصناعة العيون الزجاجية.

استعان "عبد الرحمن" بعددٍ من المرضى الذين فقدوا أعينهم؛ للبدء بأولى تجاربه بصناعة العيون الزجاجية. وبإمكانيات بسيطة، وفي منطقة لا تتوفر فيها الكهرباء ولا المحروقات، وبعد عدّة تجارب نجحت يداه بتكوين عينٍ صناعية للمصابين، وبات باستطاعته -كما يقول لـ"اقتصاد"- أخذ طبعة العين وبصمتها وتصنيعها بدرجة أقرب ما تكون مطابقة للعين الطبيعية، بحيث تأخذ موقعها في تجويف العين المفقودة أو المشوّهة.



في آذار/ مارس عام 2018 خرج "عبد الرحمن" من "الغوطة الشرقية" ضمن حافلات التهجير، ليستقر في مدينة "عفرين"؛ حيث تابع فيها عمله في "التعويضات السنية" وخصص قسماً لصناعة العيون التجميلية، لكنّ شغفه بالأخيرة دفعه إلى تطوير مهاراته فخضع لدورة تدريبية عبر الإنترنت لدى شركة تركية مختصة بالمجال ذاته، ليتمكن لاحقاً وعبر الشركة ذاتها، من شراء مواد صناعية ذات جودةٍ أفضل بكثير من تلك المواد التي كان يستخدمها في "الغوطة"، ما انعكس إيجاباً على النتائج.

ولا تختلف صناعة العيون الزجاجية كثيراً عن صناعة التعويضات السنية؛ ففي كلا المجالين يتم استخدام الأدوات ذاتها ولكن بطرقٍ مختلفة، والمواد ذاتها ولكن بتراكيب وألوان مختلفة، ويتم أيضاً أخذ قياس العين بطريقة مشابهة لطريقة أخذ قياس الأسنان، وتتشابه عمليات الحفر والتنعيم والصبغ والحفّ، لكنّ العين تحتاج لرعاية أكثر من حيث النعومة والألوان.

ووفق "عبد الرحمن" فإنّ إجراء هذا العمل من قبل غير مُختصي التعويضات السنية أمرٌ صعب، لأنّ ذلك يحتاج لمعرفة واسعة في خطوات العمل وفيزياء المواد وخلطها وتصلبها. كذلك فإنّ عملية صناعة العين تتطلب عدّة جلسات وربما تستغرق أسبوعاً كاملاً حتى يتم الوصول إلى عينٍ مطابقة لعين المريض السليمة تماماً، وهذه العين خاصة بالمريض ذاته ولا يمكن تركيبها لمريضٍ آخر بسبب اختلاف الشكل والمقاسات.


وتعدّ صناعة وتركيب العيون الاصطناعية تخصصاً نادراً، ولا يتم تعليمه بشكلٍ أكاديمي، إنمّا يتم بالتدريب وتناقل الخبرات بين العاملين فيه، ويحتوي من الخفايا الشيء الكثير الذي يجب اكتشافه، لكن أكثر ما يميز هذا التخصص هو جانبه الإنساني الذي يمكن من مساعدة الفئة التي فقدت واحدة من أهم الحواس.

وفيما يخص الصعوبات، أشار "عبد الرحمن" إلى أنّه يواجه حالياً صعوبات عدّة تتمثل في تحكم الشركات التركية بأسعار مواد التصنيع الأوليّة وعجزه عن استيراد الأنواع ذات الجودة الممتازة من أوروبا وإيصالها إلى الشمال السوري، ومن عدم وجود جهات أو منظمات تهتم باحتياجات فاقدي الأعين رغم أعدادهم الكبيرة في المنطقة.

وحول الأسعار بيّن "عبد الرحمن" أنّ سعر العين التي يُصنِعها يبلغ 200 دولار أمريكي، أمّا السعر العالمي فيتجاوز 1000 دولار للعين الواحدة.

ولفتّ إلى أنّ العين الاصطناعية غير دائمة، ولها عمر افتراضي؛ إذ يجب تغييرها كل ثلاث إلى أربع سنوات، ولابدّ من صقل العين كل ستة أشهر تفادياً للالتهابات والمشكلات التي قد تصيبها.

وأردف أنّ "غالبية مصابي الأعين يعجزون عن تأمين ثمن العلاج بسبب ظروف النزوح وانعدام مصادر الدخل، إذ بالكاد يتمكن حوالي 20% من المصابين فقط من تأمين ثمن العلاج، في حين يعجز الباقون عن ذلك. رغم أن تكلفة العلاج في الشمال السوري أقل بكثير من السعر العالمي".

بدوره يرى "محمود أبو الخير" أخصائي دعمٍ نفسي في ريف حلب، أنّ العيون التجميلية تعتبر واحدةً من وسائل الدعم النفسي ومن وسائل علاج آثار الحرب خاصة في سوريا، وهي تشبه إلى حدّ كبير عملية تركيب الأطراف الصناعية من حيث النتائج النفسية.

وأضاف في حديثه لـ"اقتصاد" قائلاً: "بعض الناس ينظرون لفاقدي الأعين على أنّهم ليس لديهم كيان في المجتمع أو نظرة سخرية أو عطف زائد، وهذا يؤرقهم ويزيدهم ألماً، فالإنسان الذي فقد عينه مثله مثل أي إنسان له كيانه ما دام قادراً على العطاء".

وختم بالقول: "العيون التجميلية تساعد أصحابها على التأقلم مع ذاتهم وتقبلها بشكلٍ أسرع ولا تشعرهم بالحرج أو الإحباط في تعاملهم مع أصدقائهم سواءً في المدرسة أو مع المجتمع الخارجي".

وبالعودة إلى "عبد الرحمن" فإنّ أكثر العوامل التي تثير فرحه وتحفزه على متابعة عمله بنجاح هي حماسة المرضى ولهفتهم لرؤية وجوههم الجديدة؛ فرؤية الابتسامة من جديد على وجه المريض تنسيه-كما يقول- كل الجهد الذي بذله خلال فترة التصنيع.

ترك تعليق

التعليق