البقرة


اجتمع عدد من الأطفال في الصباح، وعلت أصواتهم بعد أن توقفوا عن الجري خلف عجلات الكاوتشوك الرفيعة السوداء التي يلهون بها على طرقات قريتهم الصغيرة في أعالي جبال القرداحة.

كان المنظر بالنسبة لهم عادياً أن ترى رجلاً يعانق بقرته ومصدر رزقه ويتشكرها على ما تجود به عليه وعلى عائلته.

زاد عشقهم للأبقار والماشية في الأعوام الأخيرة، بعد أن أصبح أغلب شبابهم بين قتيل وجريح ومهاجر، أو قاطع طريق في الجبال التي اعتصم بها هرباً من الجندية.

ارتفعت حرارة حبهم للحيوانات، فقد أصبح راتبهم الذي يتقاضونه لا يشتري لهم أكثر من بضعة كيلوغرامات من الأرز والسكر، وقليلاً من الشاي.

كان "حسن" الملقب "أبو جعفر جوية" بجانب بقرته وفمه على فمها، ويعانق رقبتها بكلتا يديه، ويتكور جسده بين رجليها الأماميتين، كانا يغطان في نوم عميق.

نادى أحد الأطفال بصوت منخفض "عمي أبو جعفرـ عمي أبو جعفر".

لم يجبه أحد، تجاوز السياج المنخفض المكون من بضع أغصان سنديان قديمة، اقترب من أبو جعفر، ناداه "عمي، عمي" ولا مجيب.

أمسك بياقة قميصه، شده منها بهدوء، ثم بعنف، ثم أمسكه بكلتا يديه وبدأ يهز جسده.

كان جسده بارداً، الزبد يعلو فمه، كما يغطي فم البقرة، لم يفهم عاد إلى الخلف، استدار، ثم فر هارباً.

عاد الطفل بعد قليل برفقة مجموعته التي يلعب معها، وقفوا على الطريق، تقدم أكبرهم سناً من أبو جعفر، وضع يده على وجهه، وصاح "إنه ميت إنه ميت، هكذا كان وجه أبي عندما سلمتنا الشرطة العسكرية جثته، كانت باردة وجامدة".

عاد أبو علي جعفر منذ بضعة أشهر إلى قريته، واستقر بها بعد عشرين عاماً، عاد ليقطن في الغرفة التي ولد فيها.

كانت الغرفة بطول حوالي سبعة أمتار وعرض أقل من أربعة، مسقوفة بإسمنت مرتكز على عوارض خشبية، جدرانها بسماكة حوالي المتر، مبنية من الحجارة، ولها نوافذ حديدية صدأة.

كانت زيارات أبو جعفر إلى قريته خلال عمله الطويل في المخابرات الجوية قليلة، ولا تتجاوز مرتين أو ثلاث في العام حسب المناسبات، ولم يكن لينام في القرية، كان عاقاً لوالديه، ولم يذكر أحد من أهل القرية أنهم سمعوا كلمة طيبة بحقه من والده، بل كان يطلق عليه لقب المغضوب.

معروفاً بين أهل القرية بأبو جعفر، وفي حلب كان مشهوراً بأبو جعفر جوية، حيث كان يعمل محققاً في فرع المخابرات الجوية في أعوامه الأخيرة.
 
عمره حوالي أربعين عاماً، تدرج في المناصب من حارس حتى عنصر مداهمة، ومرافقاً لرئيس الفرع وخادماً شخصياً له ومستودعاً لأسراره، حيث رقّاه ليصبح محققاً مرعباً.
 
كان يطلق على نفسه لقب ملك الموت عندما يمارس هوايته في التعذيب وفنه في القتل.

أشاد بناء ضخماً وفخماً في حلب الشرقية، بناه على أرض استولى عليها بصفته الأمنية، وبأمواله التي حصل عليها بالحرام، وتحت بنائه عشرات المحلات التي كان يستثمرها، ومع ذلك لم ينجو بناؤه من القنابل الفراغية التي سوّته بالأرض، وأنهت ملكيته له.

لم يترك خلال عمله الطويل شيئاً من الفواحش لم يرتكبه، ولا عملاً دنيئاً لم يقترفه، كل ما يقوم به مخالف للقانون، عمل في التهريب وحماية الداعرات وتجارة المخدرات، غاص في الرذائل حتى ملّت الرذائل منه.

القرداحة مفتاحه الأول، وتمثّله لدور الكلب المطيع مفتاحه الثاني، وتنمره على المساكين من أهل حلب مفتاحه الثالث.

ذليلاً وخادماً مطيعاً لسادته الضباط، ميسراً لفسادهم الأخلاقي ومديراً لأعمالهم المخالفة للقانون، واجهة لرشواتهم وسرقاتهم، فهو محمي بحكم الانتماء الجغرافي والطائفي، وبقوة الضباط الفاسدين من أبناء جلدته.

كان أسداً على المدنيين المساكين وأصحاب المحلات والتجار الصغار من أهل حلب، وسمساراً في كافة الدوائر الحكومية بقوة الانتماء، وناطقاً باسم سادته.

عاد خالي الوفاض مع بداية عام 2020، فقد أحيل إلى التقاعد بعد أن أصيب بانفجار لغم بسيارته التي تعود لفرعه في ريف حلب الغربي.

كانت زوجته قد سرقت كل أمواله وشقاء عمره كما كان يقول، وأصبح لا يملك شيئاً، باعت كل أملاكه التي سجلها باسمها من شقق ومحلات في طرطوس، حيث كان ينوي أن يستقر في أواخر أيامه بعيداً عن قريته، وتمكنت من الفرار مع أبنائها عبر البحر إلى بلاد اللجوء.

وصفها بالخائنة وناكرة الجميل، وخصوصاً أن هربها وسرقتها له جاءت بعد إصابته وإحالته إلى التقاعد، حيث كان يعتقد أنها المرأة الوفية التي رباها على يديه، وعلمها معنى الخنوع بمئات جلسات التعذيب حيث كان يمارس ساديته عليها، وهي التي كانت تلبي كل طلباته، ولم تخذله في يوم ما، وخاصة رقصها ودلعها في سهراته الماجنة التي كان يقيمها للضباط وأصحاب الأموال.

لم يكن ليدور في خلده أبداً أن هذا الحمل الوديع كان يخفي شيطاناً تحت جلده وينتظر الفرصة كما كان يقول.

لم تترك له شيئاً سوى تعويض نهاية الخدمة، وهذا ما قبضه بعد رحيلها مع أبنائه، وكان بقيمة بقرة.

ملّ منه أهالي القرية وهو يندب حظه ويلعن تاريخه وسادته وخدماته التي قدمها لهم، ويعتبرهم خائنين له وناكرين للجميل، وخاصة أنهم رفضوا مقابلته بعد دخوله المشفى، ولم يسمحوا له بدخول مكتبه، وحرموه من كل وثائقه التي يمكن أن تدينهم.

كان يردد دائماً "شقاء عمري طلع بقرة، طلع بقرة". "ثمانية وعشرين عاماً.. بقرة". "كل ما جنيته.. بقرة". "بنايتي في حلب.. بقرة". "الشاليه والمحلات والبيت في طرطوس.. بقرة".

عادة ما كان يترك الجالسين وينهض دون كلمة وداع وهو يردد "بقرة ـ بقرة.. بقرة".

عاد أبو جعفر جوية إلى منزله مساء، رأى بقرته تحتضر، جلس بجانبها، قال لها لا تموتي فأنت كل ما تبقى لي في هذه الدنيا، أنتِ مالي ورفيقتي سكني وعشيرتي.

بقي بجانبها حتى الصباح. لفظت أنفاسها الأخيرة. دخل منزله. جلس قليلاً. لم يعد لديه مورد للعيش ولا رفيق سكن، ضاع كل شيء، ليس لديه أصدقاء، فهو لم يزرع محبة بل زرع كرهاً ورعباً ونفوراً.

بصعوبة تمكن أهالي القرية من فصله عن البقرة، فيداه كانتا متحجرتين حول عنقها، كانت رائحته مزعجة للغاية، وبعد يومين نعته صفحات موالية لنظام الأسد بالشهيد.

وجد أهالي القرية بجانبه علبة حبوب مخدرة، وزجاجة خمر بلدي فارغة، ووجدوا ثيابه غارقة بقيئه وبرازه.

ترك تعليق

التعليق