اقتصاديات.. مغامرات بشار الأسد العقلية


من أوحى لبشار الأسد بأن يحمّل أسباب الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تضرب سوريا، إلى ضياع إيداعات السوريين في المصارف اللبنانية والمقدرة بعشرات مليارات الدولارات، هو موقع الكتروني أغلق أبوابه مؤخراً، لكنه قبل ذلك، عمل جاهداً على بلورة هذه الفكرة، مطالباً رجال الأعمال السوريين، بسحب أموالهم من البنوك اللبنانية وإعادتها إلى البنوك السورية، نظراً لوجود بوادر أزمة اقتصادية، تلوح في الأفق، قد يتعرض لها لبنان.

أما في لبنان، فيقولون، إن من أبرز أسباب الأزمة الاقتصادية الأخيرة، هو قيام عدد كبير من المودعين بسحب أموالهم، خلال فترة زمنية قصيرة، وتحويلها إلى بنوك خارجية، ومن بين هؤلاء، المودعون السوريون.. لكن السوريين لم ينقلوا أموالهم إلى البنوك المحلية، وإنما إلى البنوك الخليجية، وبالذات في الإمارات العربية المتحدة.

وتاريخياً، أو على الأقل منذ ستينيات القرن الماضي، كانت المصارف اللبنانية، ملاذاً آمناً لأموال السوريين، وذلك بفعل الخطاب العدواني لحزب البعث، تجاه كل رؤوس الأموال، ووصفهم بأنهم من مخلفات الإقطاع، وبأنهم عملاء للاستعمار ويجب القضاء عليهم.. لذلك كان من الطبيعي أن يفر هؤلاء بأموالهم، لمن يقدرها ويعتبرها ثروة اقتصادية مهمة، يجب رعايتها وتنميتها.

وحتى بعدما سمح النظام، بفتح بنوك خاصة في سوريا، في العام 2006، فإنها لم تستطع استقطاب كامل إيداعات رجال الأعمال السوريين، الذين ظلوا يحرصون على إبقاء نسبة كبيرة منها خارج البلد، لأسباب تتعلق بظروف النظام البوليسي ذاته، الذي كان يحصي على السوريين أنفاسهم، ويسعى لمحاصصتهم على أموالهم، فيما لو اتضح أن هناك فائضاً فيها عن حاجتهم.

بالإضافة إلى ذلك، فإن نسبة كبيرة من الأموال السورية التي كانت تذهب إلى المصارف اللبنانية، هي تخص لصوص البلد، ممن كانوا يتهربون من الكشف عن حجم سرقاتهم، وهؤلاء أغلبهم من ضباط الجيش والمخابرات، وعملائهم من المتعهدين الكبار والمهربين وتجار الحرام، والذين لم يكن بوسعهم الذهاب بأموالهم إلى أبعد من لبنان.. أما بالنسبة لرجال الأعمال الذين كانوا يعملون في الصناعة ولديهم استثمارات واضحة وكبيرة، فلم يكن لديهم ضير في نقل أموالهم إلى أي جهة، بل على العكس، كانت البنوك العالمية المحترمة ترحب بأموالهم، ما داموا يملكون مبررات تواجدها وتكاثرها..

لذلك، يمكن القول، أو الجزم، بأن الأموال السورية التي تلاشت في البنوك اللبنانية، هي أموال النهب، التي تخص الفئات التي ذكرناها سابقاً، لأنها لم تستطع نقلها إلى أي جهة، بما فيها البنوك السورية.

وللتدليل على الكلام السابق، اتصل بي قبل عدة أشهر، أحد هؤلاء اللصوص، الذي يقول عن نفسه بأنه تاب بعد الثورة، ليخبرني بأن لديه في البنوك اللبنانية بضعة ملايين من الدولارات، ولا يستطيع سحبها أو تحريكها، لأنه ليس لديه وثائق منطقية تبرر وجودها، ثم استدرك قائلاً: "بصراحة كانت مصاري حرام حصلت عليها من الشراكة مع ذو الهمة شاليش.. لذلك غير آسف على ضياعها".

أما ما قاله بشار الأسد، بأن هذه الأموال تقدر بين 20 إلى 42 مليار دولار.. فهو أدرى بهذا الأمر من غيره، لأنه يعرف اللصوص المحيطين به، ويعرف حجم الأموال التي سرقوها من خيرات البلد.. وهو وإن التبس عليه الأمر، ليصل الفارق بين الرقمين إلى أكثر من 20 مليار دولار، إلا أن ذلك يشير إلى أن هناك أموالاً كثيرة منهوبة، لدرجة أن رئيس الجمهورية لم يعد يعرف حجمها بالضبط.

وما يثلج الصدر في هذه الجزئية، أن الأخوة اللبنانيين ردوا على بشار الأسد بما يكفي، وكذبوه على المعلومات التي أدلى بها لوسائل الإعلام كأي ناشط اقتصادي.. أما الإعلام الروسي الناطق بالعربية فقد استغرب من هكذا تصريح، وعنون خبره، بأن بشار الأسد يبرئ أمريكا ويتهم شعبه بأنه هو السبب في الأزمة الاقتصادية التي تتعرض لها البلد، مع وضع العديد من إشارات الاستفهام والتعجب.

ويبقى أن نشير في النهاية إلى أن الموقع الذي ورط بشار الأسد بهذه التصريحات، وهو "سيرياستيبس"، الممول من أجهزة المخابرات، والمعبّر غير الرسمي عن القصر الجمهوري، فقد أغلق أبوابه مباشرة في أعقاب الضجة التي أثارها كلام بشار، على اعتبار أنه الموقع الوحيد الذي كان يعزف على نغمة الأموال السورية المودعة في البنوك اللبنانية، وهو الذي كان يحدد هذه الأموال بأنها تتراوح بين 20 إلى 30 مليار دولار، ثم يتهم تجار دمشق بأنهم هم أصحاب هذه الأموال، ومن خلفهم السُنة بأنهم جميعهم خونة بما في ذلك الذين بقوا في أحضان النظام.. لكن يا للعجب، فقد انقلب السحر على الساحر، وظهر بشار الأسد في أعقاب هذه التصريحات، سخيفاً وعقله خفيف، لدرجة أنه يتداول أي كلام ملقى في أحد المواقع الإلكترونية، دون تدقيق أو تمحيص، أو حتى تقدير للعواقب التي قد يخلفها مثل هذا التصريح.

ترك تعليق

التعليق