قصّة الصراع الدولي على حقل غاز جنوب تدمر بين عامي 2000 و2003


عام 1998 اكتشفت الشركة السورية للنفط حقل غاز كبير جنوب غرب تدمر، طاقته الإنتاجية 6-7 مليون م3 يومياً، وكان أكبر حقل غاز في سوريا، في وقت كانت فيه أهمية الغاز تتزايد في العالم وسط توجه لاستثماره بعد أن تم إهماله وحرقه على الشعلة لسنوات كثيرة – الشعلة: هي اللهب الذي نراه فوق حقول النفط يخرج من فوهات شعلة ترتفع قرابة مائة متر في الجو-.

وحينما زار بشار الأسد فرنسا عام 2001 واستقبله الرئيس الفرنسي جاك شيراك، قدّم الأول وعداً لـ شيراك بأن يمنح هذا الحقل لشركة توتال الفرنسية، التي كانت متواجدة سابقاً في سوريا، وتستثمر في حقول نفط بدير الزور.

من جهة أخرى، اهتمت شركة بتروفاك بذات الحقل واتفقت في خريف عام 2000 مع شركة بي إتش بي الاسترالية، وهي شركة مناجم وطاقة كبيرة، على التقدم لاستثمار هذا الحقل، بينما كان مدير عام الشركة السورية للنفط آنذاك الدكتور أحمد معلا يرغب بأن تقوم الشركة السورية للنفط باستثمار الحقل وعدم منحه لأي شركة أجنبية وكانت حجته أننا اكتشفنا حقل الغاز بأنفسنا ونعرف حجم الاحتياطي الكبير ونحتاج فقط لبضع مئات من ملايين الدولارات لإقامة المنشآت ونأخذ كامل الأرباح، بينما كانت وجهة نظر أخرى تؤيد منح الاستثمارات النفطية لشركات أجنبية تقول إن سوريا بحاجة لاجتذاب شركات دولية غربية كبيرة كي تستثمر فيها مما يخفف الضغط السياسي الغربي عليها من جهة، ومن جهة أخرى ستحقق الدولة ذات العائد من الشركة الأجنبية المستثمرة بسبب كفاءة الشركات الأجنبية دون أن تحتاج الدولة لضخ أي استثمارات في الحقل، وبالتالي يمكنها أن تضخ هذه المبالغ (كان استثمار الحقل يحتاج لنحو 700 مليون دولار) في قطاعات أخرى. مثلاً كان يعمل في الشركة السورية للنفط قرابة 12 ألف مشتغل مقابل 3000 مشتغل في شركة الفرات للنفط (شل) وكان إنتاجهما من النفط متقارب. وقمنا في شركة بتروفاك بدراسة مقارنة للجدوى الاقتصادية والسياسية بين أن تستثمر الشركة الحكومية حقل الغاز وبين أن تعطيها لمستثمر أجنبي وتم رفعها لرئيس الوزراء ولبشار الأسد، حينها.
 
كان رئيس الوزراء محمد مصطفى ميرو -"اليد النظيفة"- قد تولى الوزارة في آذار عام 2000 خلفاً لمحمود الزعبي الذي أمضى في رئاسة الوزارة 13 عاماً، وبدأت شركة بتروفاك مع شركة بي اتش بي، تدرس الخرائط والمعلومات المتوفرة، وقامت بزيارات للحقل المذكور ثم تركت أحد المهندسين -"توم جونز" مقيم في دمشق- للمتابعة، ومنحناه غرفة في مكتب بتروفاك وأُغرم بالطعام السوري. وفي 2002، اقترحت على أيمن أصفري أن تقوم بي اتش بي وبتروفاك بدراسة لتطوير قطاع النفط ككل في سوريا من مختلف الجوانب وقمنا فعلاً بتلك الدراسة ووضعنا استراتيجية شاملة لتطوير القطاع، وكانت استراتيجية مميزة فعلاً، عمل عليها العديد من خبراء بي اتش بي وبتروفاك، يمكنها أن تجذب استثمارات بنحو 7 -8 مليار دولار وتخلق 160 ألف فرصة عمل، وتم عرضها ومناقشتها مع رئيس الوزراء ميرو ووزير النفط ومدير عام السورية للنفط. ولكنها أهملت كالعادة، وهذا نموذج لتعامل تلك السلطة مع أي أفكار جديدة لتطوير الاقتصاد السوري. وسأكتب عن هذه الاستراتيجية.

بعد كثير من المداولات قرر مصطفى ميرو بموافقة بشار الأسد سنة 2003 أن يتم الإعلان عن استثمار حقل الغاز المذكور لمن يرغب من الشركات، وتقدم للمشاركة في الإعلان لاستثمار الحقل ثلاث شركات فقط لأن بقية الشركات العالمية تعلم اللعبة، وكان العرض الأول من شركة توتال الفرنسية، والعرض الثاني من كونسورتيوم مؤلف من كل من بتروكندا الكندية وأوكسيدنتال الأمريكية وبتروفاك البريطانية، والعرض الثالث من شركة سوميتومو اليابانية، ويبدو أن أحد النافذين أغراهم بتقديم العرض رغم أنها ليست شركة طاقة. كانت شركة بي اتش بي التي اتفقت معها بتروفاك بدايةً، قد غادرت سوريا أواخر 2002 بسبب تبدل إدارتها العليا التي قررت الانسحاب من سوريا والتركيز على خليج المكسيك حيث وجدت الشركة اكتشافات جديدة. لذلك توجهت بتروفاك للمشاركة مع بتروكندا ثم انضمت إليهما شركة اوكسيدنتال.

حين فض العروض كان عرض توتال هو الأقل سعراً وهو الأفضل، ولكن الشركة السورية للنفط طلبت من العارضين الثلاثة تقديم عروض أفضل، فكان عرض الثلاثي الأنكلوساكسوني أفضل من الفرنسي. أما سوميتومو فانسحبت، ولم تقدم شركة توتال شروطاً أفضل، فرسى العقد على الكونسورتيوم الثلاثي، وهنا جن جنون شيراك لأنه خرج بسواد الوجه وبدا صغيراً، وكان الرجل مع شركة توتال، يأملون أن يتم الاتفاق المباشر مع الشركة الفرنسية، بالتراضي، وليس عبر إعلان، كما حدث في جميع عقود الاستثمار مع الشركات الأخرى، فكانت المفاوضات تتم مباشرة بين السورية للنفط والشركة الأجنبية إلى أن يصلوا لاتفاق دون إعلان ومسابقات ومناقصات، ولكن مصطفى ميرو مع بشار الأسد رأؤوا أن الإعلان وإتاحة فرصة لمن يرغب باستثمار الحقل سيزيح الحرج عن بشار ويخفف من ذنب عدم تنفيذ وعده لشيراك. وبقي الرئيس الفرنسي غاضباً، وبدأ يصف بشار الأسد بأنه كاذب، وتوترت العلاقات بين فرنسا وسوريا بعد أن تجمعت موضوعات خذلان شيراك في موضوع عقد حقل الغاز إلى جانب التمديد للرئيس إيميل لحود في لبنان سنة 2003 وتصاعد التوتر بخاصة بعد اغتيال الحريري في شباط 2005. ولم تعد العلاقات بين البلدين إلى دفئها إلا في 2007 بعد فوز ساركوزي بالرئاسة الفرنسية.

تم وضع نص العقد باللغتين العربية والانكليزية بين الدولة السورية ممثلة بالشركة السورية للنفط وشركة بتروكندا ومعها شريكيها وجرى تدقيقه وأصبح جاهزاً  للتوقيع، ولكنه لم يوقع لأن محمد مخلوف طلب أن يكون له ملكية في العقد 5% -طبعاً دون أن يدفع شيئاً- ولكن أي من الشركات الثلاث لا يمكنها فعل ذلك لأنه يعرضها لعقوبات شديدة في بلدانها، وقد أخذ بازار المفاوضات عدة أشهر، ولكن محمد مخلوف لم يتنازل عن طلبه. وكان يومها وزير النفط إبراهيم حداد، وكان الأخير مع منح الحقل للشركة السورية للنفط، وكان يفعل ما يستطيعه لعرقلة إبرام العقد مع بتروكندا، ولكن القرار لم يكن بيده، وعندما لم يتم إرضاء محمد مخلوف طلبوا من الكونسورتيوم الثلاثي ضمانات حسن تنفيذ بـ 300 مليون ليرة سورية من أجل ضمان عدم فرض عقوبات على سوريا، وعدم وقف استثمار الحقل بسبب عقوبات أمريكية قد تصدر (كان الأمريكيون قد احتلوا العراق وبدأوا يهددون سوريا).
 
وبالطبع لم يكن شرط الضمان المرتفع سوى حجة لعرقلة توقيع العقد. وهكذا أسدل الستار على هذه الحكاية ومُنح الحقل للشركة السورية للنفط التي أعلنت عن مناقصة لإقامة منشآت الغاز في الحقل وكان العرض الأفضل لشركة إيطالية، ولكن جاء القرار هذه المرة بمنحه للعارض الثاني وهو شركة ستروي غاز الروسية وهي شركة تتوقف خبرتها عند تمديد الأنابيب وهي دون مستوى إقامة معمل غاز Gas Plant وتأخرت ستروي غاز بالتنفيذ ثم توقفت بحجة أنها تكبدت خسائر ثم طالبت بـ 140 مليون دولار إضافي ليس لها فيها أي حق، وحصلت عليها. وقد كان وراء شركة ستروي غاز هذه المرة، محمد مخلوف.
 
عام 2004، أغلقت بتروفاك مكاتبها بدمشق بعد أن أنهت آخر مشروع لها وهو إضافة عنفة بخارية لمحطة التوليد في حقل العمر، وكنت أنا قد أسست مكتباً خاصاً للدراسات والاستشارات وخدمات الاستثمار، تابعت ما بقي لشركة بتروفاك من تصفية أعمالها، وكنت أقدم الخدمات لبتروفاك من خلال مكتبي.

وفي أواخر 2007 فازت بتروفاك بعقدين لإقامة معملين للغاز في حقلين يقعان غرب تدمر، الأول مع شركة بتروكندا -"شركة إيبلا"- في حقل الشاعر قيمته 477 مليون دولار، وانتهى أوائل عام 2010، والثاني مع شركة اينا الكرواتية -معمل غاز حيان- قيمته 500 مليون دولار وانتهى عام 2011، وقد فجره تنظيم "الدولة الإسلامية" عام 2017.

ترك تعليق

التعليق