طوق نجاة للبنانيين.. تحويلات الأموال من الخارج تقيهم الفقر


 لولا المبلغ المالي الذي تتلقاه اللبنانية عايدة سفر من أقربائها المقيمين خارج لبنان كدعم لها، لما تمكنت من متابعة حياتها ولو بالحد الأدنى في بلد يعاني أسوأ أزمة اقتصادية في تاريخه.

تساهم التحويلات المالية للمغتربين، في إبقاء الآلاف من عائلات لبنان بعيدا عن حافة الهاوية.

وبحسب التقديرات الرسمية فإن التحويلات المالية للمغتربين اللبنانيين إلى بلدهم بلغت في العام 2020، سبعة مليارات دولار. وقد صارت بالنسبة إلى عايدة، وغيرها من آلاف العائلات اللبنانية، بمثابة شريان حياة زادت أهميته مع فقد الليرة اللبنانية لنحو 90 بالمائة من قيمتها خلال عام واحد.

وتقول عايدة سفر، وهي تنحدر من مدينة طرابلس في شمال لبنان، وتعمل كحرفية في مجال الأزياء والأشغال اليدوية، إن وضعها المعيشي لم يكن جيدا، لكنه كان مستقرا نوعا ما قبل بدء انهيار الليرة وتعثر القدرة الشرائية لغالبية زبائنها اللبنانيين.

كانت عايدة تحقق دخلا شهريا يتعدى 500 دولار (حوالى 750 ألف ليرة) عندما كان سعر صرف الدولار الأمريكي يعادل قرابة 1500 ليرة، لكن سعره الآن يتعدى 12 ألف ليرة في السوق السوداء، ما أدى الى ارتفاع هائل في الأسعار بكل نواحي الحياة، بما فيها كلفة تجارتها الصغيرة التي تروج لها عبر "إنستغرام".

لكن المشكلة الأكبر بالنسبة إلى عايدة تتمثل في أن تراجع قيمة رواتب مئات الآلاف من اللبنانيين التي يتلقونها بالليرة، أجبر كثيرين على محاولة الاكتفاء بالمشتريات التي لها الأولوية القصوى، كالسلع الغذائية والأدوية، وصارت الاكسسوارات التي تصنعها عايدة يدويا خارج لائحة ضرورياتهم اليومية.

كان من الممكن أن تلتحق عايدة بالمواطنين الذين دفعتهم الأزمة الاقتصادية إلى براثن الفقر، بحسب تقديرات البنك الدولي الذي قدرهم بأكثر من 50 بالمائة من سكان لبنان، لولا أن ظروفها العائلية أتاحت لها النجاة ولو مؤقتا، أولا من خلال شقيقها المقيم في السعودية الذي يرسل إليها 200 دولار شهريا منذ عام، ثم ابنها المقيم في مدينة دبي الإماراتية الذي بدأ الآن بتحويل 200 دولار شهريا لها كدعم إضافي.

قصة عايدة ليست سوى أحد تداعيات مشهد التدهور الحاصل في لبنان بعد سنوات من سوء الحكم والفساد المستشري الذي أتت نيرانه على ودائع اللبنانيين في البنوك، ثم جاء وباء "كوفيد-19" ليزيد الوضع سوءا.

لينا جمال، سيدة لبنانية تعمل بشكل مستقل في مجال التجميل، وهي من بلدة برجا الواقعة ما بين مدينتي بيروت وصيدا، تتسلح هي الأخرى بالتحويل المالي الذي يرسله زوجها إليها شهريا بقيمة 300 دولار، والتي لولاها ما كانت لتكون قادرة على تأمين الطعام لولديها.

وقالت لينا "أنتظر أحيانا لشهر أو شهرين ليأتيني اتصال هاتفي من زبون. عملي شبه متوقف، منذ انهيار الليرة، ثم جاء الإغلاق بسبب كورونا، ليوقف العمل نهائيا".

تخلت لينا عن خطها الهاتفي الخليوي، واستبدلته بخدمة الخط المدفوع مسبقا، وكانت حتى قبل الثورة التي اندلعت في أكتوبر/تشرين أول 2019 ضد الطبقة السياسية، تحقق دخلا يتراوح ما بين 400 و500 دولار أي ما يعادل الحد الأدنى للأجور في لبنان.

لكن ذلك انتهى، والآن، تكتفي بـ 300 دولار تصلها من زوجها في السعودية، لإعالة ولديها وتسديد نفقات السكن والكهرباء والمولد الكهربائي والحاجات الغذائية الضرورية.

وتتشابه حالتا لينا وعايدة مع عشرات آلاف اللبنانيين المرتبط استمرار عملهم بقيمة الدولار في السوق، في بلد يعتمد بشكل كبير على الاستيراد وأنفق في العام 2019 وحده 20 مليار دولار على السلع والمواد المستوردة.

ومنذ أواخر العام 2019 بدأت ظاهرة شح الدولار في الأسواق، قبل أن يتوالى مسلسل انهيار الليرة، ثم احتجزت بعدها البنوك الودائع الموجودة بالدولار.

إلى هذا، قال الباحث في الشؤون الاقتصادية زياد ناصر الدين، إن الأموال المحولة من المغتربين هي بمثابة "بترول لبنان الحقيقي والتي وصلت في أحد المراحل إلى 12 مليار سنويا في فترات ما قبل الأزمة، ثم تراجعت إلى 7 مليار دولار حاليا".

ولطالما اعتمد اللبنانيون، سواء خلال سنوات الحرب الأهلية في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي أو فيما بعد انتهائها، على التحويلات المالية من أقربائهم المهاجرين أو العاملين في الخارج، وخاصة في دول الخليج وأفريقيا والأمريكتين، لكن تعطل الدورة الاقتصادية حاليا بتوقف القطاع السياحي وتعثر العديد من الصادرات، جعلتها بمثابة طوق النجاة الأخير لكثيرين، خاصة أن الدولار صار يعادل أكثر من 12 ألف ليرة حاليا.

وتساهم تدفقات الدولار من اللبنانيين في الخارج، ليس فقط في إعالة أقربائهم في لبنان، وإنما أيضا في منع الانهيار الكامل لليرة المرتبطة سعريا به.

ويلفت ناصر الدين إلى حقيقة أخرى تتعلق بما يسمى "فريش دولار" مشيرا إلى أن اللبناني المغترب كان يحتاج في السابق ربما إلى إرسال 800 دولار شهريا إلى عائلته، لكن بإمكانه الآن أن يكتفي بتحويل 400 دولار، لأن سعرها في السوق السوداء صار أكبر، برغم التضخم الحاصل في الأسعار، حيث ما تزال الدولة تطبق السعر الرسمي (1500 ليرة) فيما يتعلق بسلع أساسية مثل البنزين والمازوت والاستشفاء والدواء والإنترنت والجمارك وغيرها.

وبرغم ذلك، تعبر لينا جمال عن تشاؤمها وتقول "البلد كله إنهار. لم أعد أبالي بما سيحدث غدا. لقد فقدت الأمل، ولا أريد انتظار التحويلات المالية من ولدي عندما يكبران. أريدهما أن يرحلا للعيش والعمل خارج لبنان".

ترك تعليق

التعليق