اقتصاديات.. دبلوماسية الغاز لإعادة تعويم بشار الأسد أمريكياً وعربياً


كُتب الكثير في السنوات السابقة، عن دور الغاز فيما يجري بسوريا، حتى أن بشار الأسد نفسه، أشار في أحد حواراته، إلى ضغوط كان قد تعرض لها لمد أنابيب الغاز القطري إلى تركيا، وأنه بسبب رفضه لهذا المشروع، تحالفت الدول ضده لإسقاطه، بحسب قوله.
 
لكن بشار الأسد في تلك التصريحات لم يوضح سبب رفضه لهذا المشروع، وما هي مخاطره، مع أنه من الناحية النظرية والعملية، سوف يدر على سوريا مليارات الدولارات وسوف يؤمن حاجتها الكاملة من الغاز والمقدرة بنحو 40 مليون متر مكعب يومياً، بينما إنتاجها قبل العام 2011، كان يصل إلى 20 مليون متر مكعب فقط.
 
بداية، لكي نفهم قصة مشاريع الغاز في سوريا، لا بد أن نمر على فكرة خط الغاز العربي، الذي انطلق العمل به في العام 2002، بدءاً من مصر، باتجاه الحدود الأردنية، ومن ثم وصل إلى الحدود السورية في العام 2004.. حيث أنجزت  سوريا المشروع في العام 2006، عبر شركة "ستروي ترانس غاز" الروسية، التي أوصلت أنابيب الغاز إلى حمص.
 
كانت فكرة المشروع بالكامل، تقضي بمد الغاز من مصر إلى الأردن ومنها إلى الأراضي السورية، وعبرها إلى لبنان، ومن ثم ينطلق هذا الخط إلى تركيا بعد رفده بخط أنابيب قادم من قطر عبر الأراضي السعودية والأردنية، وخط آخر قادم من إيران عبر الأراضي العراقية الشمالية، ثم يدخل تركيا للالتقاء مع خط الغاز العربي، بالقرب من مدينة كلس التركية.

وكانت إيران تسعى بمشروع آخر منفصل يهدف لمد أنابيب غاز عبر الأراضي العراقية إلى شواطئ البحر الأبيض المتوسط السورية، من أجل سهولة التصدير إلى أوروبا.

أي كما هو واضح، أن سوريا كان مخططاً لها أن تصبح مركزاً مهماً لأنابيب الغاز، وهو ما كان سيحقق لها دخلاً سنوياً كبيراً من العملة الصعبة.. فلماذا كان بشار الأسد يرفض هذا المشروع؟
 
في الحقيقة، من كان يرفض هذا المشروع ويحاربه، ليس بشار الأسد، وإنما روسيا، التي كانت تخشى على موقعها كصلة وصل بين مناطق إنتاجه واستهلاكه في أوروبا.. لهذا يرى الكثير من المراقبين، أن من بين أهدافها الكثيرة للتدخل في سوريا، إنما كان لمنع إقامة مثل هذه المشاريع، وللسيطرة على الاكتشافات الغازية الجديدة في المتوسط والتحكم في توريدها إلى أوروبا.
 
ما يؤكد الكلام السابق، هو المساعي الروسية الحثيثة خلال العقدين الماضيين، لعرقلة كل مشاريع الغاز التي عملت عليها تركيا، لكي تصبح مركزاً لنقل الغاز إلى أوروبا عوضاً عنها.. وأبرزها مشروع خط "نابكو"، لنقل الغاز الكازاخستاني عبر تركيا، والذي كان من المتوقع الانتهاء منه في العام 2013، إلا أن روسيا وقبل نهاية المشروع، قامت بشراء غاز كازاخستان بالكامل، وهو ما تسبب بخسارة للدولة التركية تقدر بنحو 30 مليار دولار.

أما خط الغاز العربي الذي كان مقرراً أن يصل إلى تركيا، فقد قامت روسيا في العام 2010، بتهديد الشركة الألمانية التي كانت تكمل مد الأنابيب من مدينة حمص إلى حلب وصولاً إلى تركيا، وتوقف المشروع على بعد 70 كيلومتراً من مدينة كلس التركية.
 
كما ضغطت روسيا على بشار الأسد، لعدم السماح لقطر بمد خط أنابيبها عبر الأراضي السورية، وهو ما حدث بالفعل، حيث أخبر بشار الأسد القيادة القطرية بهذا الأمر، وطلب منهم التريث، ريثما يجد طريقة يقنع فيها الروس.

وإذا انتقلنا إلى موضوع الاكتشافات الغازية في البحر المتوسط، ودور مصر وإسرائيل في مشاريع الغاز المستقبلية وإيصالها إلى أوروبا، سوف نقع على مستوى آخر من الصراع، محوره أمريكا بالدرجة الأولى، وليس لروسيا أي دور فاعل فيه، لكنها تحاول تعطيله بكافة السبل.
 
في البداية، لا بد من الاعتراف بأن مصر خططت جيدة، لدى ظهور الاكتشافات الغازية الهائلة في البحر المتوسط، لكي تكون مركزاً مهماً لنقل الغاز إلى أوروبا، من خلال إقامة معملين لتسييل الغاز، بإشراف شركة إيني الإيطالية، وذلك من أجل سرعة إيصاله إلى الأسواق الأوروبية، بدلاً من مد خطوط أنابيب غاز عبر البحر، والتي تستغرق وقتاً طويلاً.

المستوى الآخر الذي عملت عليه مصر، هو إدراكها بأن الاكتشافات الغازية التي تخص باقي الدول في البحر المتوسط، وعلى رأسها إسرائيل وقبرص ولبنان، ليست ذات جدوى اقتصادية إذا ما قامت بتصديرها بنفسها إلى أوروبا، بسبب التكلفة المرتفعة لأنابيب الغاز عبر البحر، بالإضافة إلى أن الاحتياطي غير كبير، وهو بالكاد يكفي لمدة عشرين عاماً في حال تصديره إلى أوروبا.. لذلك سعت مصر لشراء الغاز الإسرائيلي المكتشف كاملاً، وتعهدت بمد إسرائيل بالغاز بأسعار تفضيلية، كما سعت لشراء الغاز من قبرص واليونان.. محتجة بأن لديها معملين للغاز المسال، وهو ما يسمح لها بسرعة التصدير للأسواق الأوروبية.
 
إلا أن اسرائيل قامت وبشكل مفاجئ، بعقد اتفاق منفرد مع قبرص واليونان، على مد خط أنابيب غاز منفصل إلى إيطاليا، وتعهدت بتحمل كامل تكاليفه، مع تعهدها بشراء كامل الغاز المكتشف في المياه الإقليمية الخاصة بهما.

هذا الأمر أربك مصر في الفترة الأخيرة، وجعلها تسعى لإعادة إحياء خط الغاز العربي المتوقف الضخ فيه منذ العام 2012، عبر الأراضي السورية، لكن ذلك يقتضي موافقة أمريكا وروسيا، لأن الخط لن يكون له أي جدوى اقتصادية، إذا لم يصل إلى لبنان ومن ثم إلى تركيا..
 
تقول المعلومات، بأن بشار الأسد أرسل إلى أمريكا موفداً في الأشهر الماضية، لكي يطرح عليهم فكرة إعادة إحياء خط الغاز العربي، كما وطلب منهم الضغط على الروس للموافقة، مقابل إعادة تعويمه عربياً ودولياً.

كما وتتحدث الأنباء، أن أمريكا احتجت بإيصال الغاز إلى لبنان عبر هذا الخط، بحجة فصله عن إيران، في أعقاب إعلان الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، نيته استيراد البترول من إيران.. والأبرز أن أمريكا تعهدت لمصر بدفع ثمن الغاز اللبناني من خلال البنك الدولي.

إذاً، وكما يبدو أن هناك مسرحاً جديداً للأحداث في سوريا، عنوانه هذه المرة مشاريع أنابيب الغاز، حيث تم الإعلان عن عقد اجتماع بين علي مملوك، رئيس إدارة المخابرات العامة في النظام، وحقان فيدان، رئيس جهاز المخابرات التركية، في بغداد، يوم الأربعاء 8 أيلول الجاري، حيث تفيد الأنباء بأن الهدف من الاجتماع بالدرجة الأولى، هو بحث مشاريع الغاز، وبالذات وصول خط الغاز العربي إلى تركيا.

من جهة ثانية، يرى العديد من المراقبين بأن روسيا التي أعطت الموافقة المبدئية على مد أنابيب الغاز إلى لبنان، لن تسمح باستكمال المشروع إلى تركيا ومن ثم إلى أوروبا، وسوف تسعى لتعطيله بكافة السبل، كون ذلك يتعارض مع مصلحتها الاقتصادية والسياسية، ومن هدف تدخلها الرئيس في سوريا.
 
لكن بنفس الوقت يرى البعض الآخر، أن لكل صفقة ثمن، وما سكوت روسيا حتى الآن أو إعلان موافقتها على وصول الغاز المصري إلى لبنان، لولا أن هناك صفقة حصلت عليها من أمريكا، سواء ما يتعلق بإعادة تعويم بشار الأسد، أو الحصول على امتيازات أخرى، لا أحد يعرف على وجه التحديد ماهيتها.. لكن أغلب الظن أن مسرحها سوف يظل الأرض السورية والاقتصاد السوري على وجه الخصوص..
 

ترك تعليق

التعليق