التكافل الاجتماعي ينقذ أبناء الريف السوري من المجاعة


تبدو المقاربة شديدة الصعوبة، لمن هم خارج سوريا، عندما يقرأون الأخبار التي تتحدث عن غياب أبسط متطلبات الحياة المعاشية لأبناء الداخل السوري، من ماء وكهرباء وغاز ووسائط نقل وخبز.. إلخ، ناهيك عن الغلاء الفاحش ومتوسط الدخل المتدني، وأحياناً انعدامه، حيث أول ما يخطر بالبال هو الأسئلة التالي: ماذا يأكلون؟ كيف يذهبون إلى أعمالهم؟ كيف يغسلون ثيابهم ويستحمون؟ هل لازالوا يتزاورون ويدعون بعضهم البعض لشرب الشاي والقهوة وتناول الطعام، بعد أن أصبح ثمن كيلو السكر أكثر من 2000 ليرة، وكيلو القهوة أكثر من عشرين ألف ليرة سورية، والخبز يتم حسابه بالرغيف على الفرد؟ "الدولار يساوي 3500 ليرة في السوق السوداء، ومتوسط الدخل الشهري 70 ألف ليرة، أي نحو 20 دولاراً".

كل تلك الأسئلة، تهجم دفعة واحدة، في حال تواصل سوريان مع بعضهما البعض، أحدهما في الخارج والثاني في الداخل، إذ لا تخلو المحادثة من الإثارة، عندما يشرح الثاني للأول عن الأنماط الجديدة للحياة التي بدأ السوريون يتكيفون معها، من خلال اجتراح الحلول الفردية أو المجتمعية، بعيداً عن سلطة الدولة وحضورها، إلى درجة أن السوريين باتوا لا يشعرون بوجود الدولة، سوى عند مرورهم على الحواجز العسكرية والأمنية، أو عند سماعهم لأصوات إطلاق الرصاص والقذائف.

يقول "علاء الحسن"، وهو يعمل محام ويسكن في أحد أرياف درعا المحاذي للحدود الأردنية، إن الندرة والفقر وغياب أبسط متطلبات الحياة المعاشية، فرض أنماطاً جديدة مرعبة على حياة السوريين، لكن ما ينقذ الوضع حتى الآن، هو صور التكافل والتكاتف الاجتماعي، بين أبناء الداخل السوري والمغتربين، مشيراً إلى أن الناس لم تعد تتعامل مع الدولة سوى كحالة استثنائية، أو مكسب إضافي لا أساسي.

ويضرب مثلاً من بلدته، التي يبلغ عدد سكانها نحو 15 ألف نسمة، حيث قام مغتربوها، بعمل حملة دائمة، يتكفل فيها كل مغترب بدفع مبلغ 20 دولاراً كحد أدنى في الشهر، يتم توزيعها على الأسر التي لا يوجد لديها أي مصدر للدخل، وكذلك الأسر التي تعتاش على الرواتب الحكومية الضئيلة، لافتاً إلى أن الحملة نجحت حتى الآن بتأمين الحد الأدنى من متطلبات بعض الأسر المهددة بالمجاعة. 

وأشار "الحسن" إلى أنه في أغلب القرى السورية، هناك حملات مشابهة، يتكاتف فيها المغتربون مع أهاليهم وذويهم، وهي تشكل اليوم العمود الفقري في معيشة أبناء الداخل وصمودهم، في وجه حمى بيع الممتلكات والسفر ومغادرة البلد بأي ثمن، والتي تجتاح السوريين في المدن على وجه الخصوص.
 
ومع ذلك يقول الحسن، إن الوضع في الداخل مأساوي وكارثي، وبالذات على مستوى العلاقات الإنسانية والاجتماعية، "فإذا ما فكرت بزيارة صديق عزيز أو أحد أقاربك، بعد انقطاع فترة طويلة، فإنك على الأغلب لن تستطيع الجلوس معه لأكثر من عشرة دقائق". ويضيف: "الناس أصبحت شاردة، تائهة، لا تستطيع التآلف حتى مع آخر حميم.. تشعر وكأن هناك حالة انهيار عصبي جماعي أو اكتئاب عام لدى السوريين".

وإذا كان الوضع في الريف ينقذه التكاتف الاجتماعي، فإن الوضع في المدن مختلف تماماً، حيث شروط الحياة ومتطلباتها أكثر قسوة ووحشية، والناس أكثر حاجة للدولة وخدماتها، ورغم ذلك، يقول "أبو أسامة" من سكان مدينة دمشق، إن الناس تعتمد بالدرجة الأولى على تحويلات المغتربين في أوروبا ودول الخليج، ومن ليس لديه مغترب، فهنا الكارثة بعينها بحسب وصفه، مشيراً إلى أنه منذ قرابة العام، ساءت الأوضاع كثيراً في سوريا، وهو ما دفع البعض لبيع أثاث منزله، أو حتى بيع منزله، لتغطية نفقات تهريب أحد أفراد الأسرة إلى أوروبا أو الخليج، من أجل أن يصبح معيلاً لها في المستقبل.
 
وتقدّر مصادر اقتصادية مستقلة حجم تحويلات المغتربين السوريين بنحو 4 ملايين دولار يومياً، فيما يرى البعض أنه رقم مبالغ به، أو على الأقل أن هذه التحويلات لا تمر عبر القنوات الرسمية، حيث سعر صرف الدولار وفقاً للمصرف المركزي السوري يبلغ 2500 ليرة، بينما في السوق السوداء يبلغ نحو 3500 ليرة.

وأكد "أبو أسامة" المعلومات التي تتحدث عن حركة بيع كبيرة للممتلكات في دمشق، بقصد الهجرة من سوريا إلى مصر أو أربيل أو ليبيا، أو غيرها من الدول، بما فيها الصومال، مبيناً أنه يعرف على الأقل عشرة أسر في حي "دف الشوك" الدمشقي الذي يسكن فيه، باعوا بيوتهم، وهربوا في الأشهر الثلاثة الماضية.

وكانت المذيعة في تلفزيون "سما" شبه الرسمي، "هناء الصالح"، قد كتبت على صفحتها الشخصية في "فيسبوك"، قبل نحو أسبوعين، أنها ودعت في بضعة أيام، 7 أشخاص من معارفها، الذين غادروا سوريا إلى أي مكان آخر يتوفر فيه الماء والكهرباء والأكل فقط.

وتتضارب الأرقام، التي تتحدث عن أعداد السوريين الذين غادروا البلد في الآونة الأخيرة، حيث قالت إذاعة "ميلودي إف إم" الموالية للنظام، إن الأعداد تقدّر بنحو 50 ألف شخص، أغلبهم من الشباب، غادروا في غضون أسبوعين، بينما لم تنف مصادر الإعلام الرسمي هذا الرقم، وإنما اعترضت على أن يكون هؤلاء المغادرون هم من رجال الأعمال والصناعيين، بحسب ما ذكر، عضو غرفة صناعة حلب، مجد ششمان، قبل عدة أيام.
 
ويعيش نحو 90 بالمئة من الشعب السوري تحت خط الفقر، وفقاً لأرقام المنظمات الدولية، فيما يؤكد مراقبون بأن التصنيف يجب أن يكون "ما دون تحت خط الفقر"، لأن خط الفقر يخص الأسرة التي تعيش على دولار واحد في اليوم، بينما في سوريا، تبلغ حصة الأسرة المكونة من خمسة أفراد، نحو نصف دولار باليوم فقط، بالاستناد إلى متوسط الدخل الشهري، الذي تدفعه الحكومة للموظف، والبالغ نحو 20 دولاراً فقط.

ترك تعليق

التعليق