اقتصاديات.. "اقتصاد الأهبل"


قبل العام 2011، كنت أحضر العديد من النقاشات بين الوزراء الاقتصاديين في الحكومة، وبين أكاديميين في كلية الاقتصاد، كانت في أغلبها تتمحور حول ماهية المدرسة الاقتصادية المتبعة في سوريا.. فلا هي اشتراكية ولا هي رأسمالية ولا اجتماعية، ولا يوجد لها شبيه في أي دولة من دول العالم.. بمعنى أن الوصفة التي يعملون عليها غير مجربة من أجل الحكم على مدى نجاحها أو فشلها..

في تلك الأثناء، كان نائب رئيس الوزراء للشؤون الاقتصادية، عبد الله الدردري، الأكثر تنطعاً للدفاع عن نظريته الاقتصادية، والتي كان يطلق عليها اسم اقتصاد السوق الاجتماعي، بينما باقي الوزراء، مثل المالية والاقتصاد والزراعة والصناعة والسياحة والشؤون الاجتماعية والعمل وحاكم المصرف المركزي ومدراء المصارف الحكومية ورئيس هيئة تخطيط الدولة ورئيس هيئة الاستثمار، فكانوا أميل للاقتناع بأن ما يجري هو أقرب لـ "الهبل". وعندما تتم محاصرتهم بالأسئلة المنطقية، كانوا غالباً ما يميلون إلى الصمت أو يتهربون من الإجابة.

عندما تولى بشار الأسد السلطة بعد منتصف العام 2000، حدثت تغيرات كثيرة على صعيد السياسة الاقتصادية في البلد، بدأت تتضح ملامحها في العام 2006 على وجه التحديد، من خلال مجموعة من المراسيم التي سمحت للقطاع الخاص بتأسيس البنوك وشركات التأمين والجامعات، ولكن المشكلة ليست هنا، فهذه المؤسسات موجودة في أغلب دول العالم، وإنما المشكلة كانت بالشركات القابضة التي كانت مهمتها القبض على كل ما في جيوب السوريين، وحصره بيد عدد من رجال الأعمال المرتبطين ببشار الأسد حصراً، من خلال ابن خاله رامي مخلوف، الذي قام بدوره بتحويل هذه النخب المالية إلى ما يشبه العصابات عديمة الرحمة، فهو يسرقهم من جهة ثم يفتح لهم المجال من جهة أخرى للتغول على الناس والاقتصاد الحكومي، لتعويض خسائرهم.

لقد تحولت البلد، في غضون خمس سنوات، من العام 2006 وحتى العام 2011، إلى غابة كان رجال الأعمال هم الحيوانات المفترسة فيها، وهكذا إلى أن وصلنا إلى مرحلة، لم تعد فيها القوانين تطبق سوى على الضعيف والصغير، وبمنتهى الشراسة..

الكثيرون قد لا يعلمون أن سياسة بشار الأسد كانت تقوم على ضرب القطاع الزراعي في سوريا، بحجة أنه لا يؤدي إلى تنمية حقيقية، على الرغم من أنه كان يشكل أكثر من 24 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي، ويعمل به ملايين السوريين. فتراجع إنتاج سوريا من القمح في السنوات الخمس الآنفة الذكر، من أكثر من 4 مليون طن إلى نحو 2 مليون طن سنوياً، وتراجع الإنتاج من القطن، الذي كان يوصف بالذهب الأبيض، من مليون و100 ألف طن إلى نحو 700 ألف طن فقط، وكذلك تراجع إنتاج المحاصيل العلفية بنسب مخيفة، بعدما توقفت الدولة عن دعمها وعدم شرائها من الفلاحين بأسعار معقولة، ومقابل ذلك زاد الإنتاج من التبغ، بحجة أنه محصول استراتيجي، ويحقق أرباحاً كبيرة للدولة، فأصبحنا ننتج تبغاً أكثر مما ننتج قمحاً..

وعلى صعيد الثروة الحيوانية، حدث ولا حرج.. فقد تراجعت أعداد القطيع في العام 2010 إلى ما دون 16 مليون رأس من الأغنام بعدما كانت سابقاً بحدود 25 مليون رأس، والأبقار تراجعت إلى 3 ملايين بعدما كانت نحو 6 ملايين رأس.. وكل ذلك كان ضمن سياسة ممنهجة كان الهدف منه ضرب اقتصاد الريف لصالح اقتصاد المدينة، الذي أصبح يتحكم به حفنة من رجال الأعمال.

لذلك زادت البطالة بين الشباب على وجه الخصوص، وزادت نسب الفقر بدءاً من العام 2009 في أعقاب الأزمة المالية العالمية.. وأصبح الشعب السوري كله يعمل من أجل دفع فواتير الموبايل لرامي مخلوف، بالإضافة إلى شراء موبايلات جديدة للأسرة. 

أذكر في مطلع العام 2010 أنني حضرت لقاء عاصفاً بين وزير المالية آنذاك، محمد الحسين، وعدد كبير من الاقتصاديين الأكاديميين والمسؤولين السابقين، وكان الكل يسأل: ما هذا النوع من الاقتصاد الذي تتبعونه..؟ ما الذي يجري..؟ وكان يومها بطل الجلسة بلا منازع الدكتور قدري جميل.. الذي لم يتوانَ عن وصف ما يجري بأنه "هبل".. لكنه للأمانة لم يقل "اقتصاد الأهبل".. وها أنا أقولها..

ترك تعليق

التعليق