حول "كراهية" السوريين لبعضهم البعض في دول اللجوء الأوروبي


يأتي السوري إلى أوروبا وهو يبحث بشغف عن سوريين آخرين غيره في المدينة التي يتم اختيارها له، ثم لا يلبث بعد فترة أن يعلن صراحة أنه انتقل إلى مدينة أخرى، ومن مزاياها أنه لا يوجد فيها سوريون، أو عدد قليل منهم..

هذه الظاهرة لم تعد حديثاً عابراً بين شخصين، بل أصبح الكثيرون يكتبونها على صفحاتهم وفي المجموعات العامة، ويتحدثون عن مزايا الابتعاد عن السوريين، الذين لم يجلبوا لهم سوى وجع الرأس والقيل والقال، والتنافس غير الشريف فيما بينهم.

فما حقيقة هذه الظاهرة وأسبابها..؟ وهل تخص السوريين الجدد الذين هاجروا إلى أوروبا بعد العام 2011، أم أنها ظاهرة يعاني منها حتى السوريون القدامى..؟ وأخيراً، سوف نتحدث عن مساوئ هذه الظاهرة وانعكاساتها على الجيل الثاني من المهاجرين، أي الأطفال.

بداية لا بد من الإشارة إلى أن هذا الموضوع هو ثمرة حوار مع عدد كبير من السوريين المتواجدين في أوروبا على مدى عدة أيام، وقد كان لافتاً عندما علموا أن هذا الحوار سوف يتحول إلى مادة صحفية، طلبوا جميعاً عدم ذكر أسمائهم الصريحة، بما في ذلك الأكاديمي المختص في الأبحاث الاجتماعية والنفسية، الذي استعنا برأيه بعد استطلاع آراء الآخرين، وذلك خوفاً من أن يقرأ كلامهم سوريون في ذات المدينة التي مازالوا يعيشون فيها، فتتحول الكراهية هذه المرة إلى عداوة حقيقية، وصراع قد يتم فيه استخدام الأيدي والأرجل.

على أية حال، سوف نحاول أن نلخص أبرز الأفكار التي تحدث بها من تحاورنا معهم، في أسباب الظاهرة وحدودها، بما في ذلك رأي المختص.. فما يعنينا في النهاية هو العنب وليس الناطور.. وعموماً هي أفكار لا تتضمن حديثاً في العيب، إلا أنها تضع اليد على الجرح في الكثير من المواقع، والتي قد تبدو للبعض بأنها وقحة، لكن ما يحركنا في كتابة هذا الموضوع، هو النتائج الكارثية لانتشار مثل هذه الظاهرة، والتي لا يدفع ثمنها الآباء وإنما الأبناء، الذين بدأوا يفقدون لغتهم العربية وثقافتهم المحلية، بسبب عدم كفاية المحيط الأسري، لنقل مثل هذه الخبرة أو التجربة، وبالتالي نأمل من الكثير من السوريين أن يعيدوا النظر بمواقفهم الثابتة، تجاه هذا الموضوع إذا ما أرادوا خدمة أولادهم، ولا نظن أن هناك سوى القليل ممن يرغب أن ينسلخ هو وأبنائه عن ثقافته الأصلية، ومن يريد ذلك، فهو مخطئ، لأنه لو تمعن في تجربة الأرمن الذين جاؤوا إلى سوريا لاجئين قبل أكثر من مئة عام، فإن أكثر ما حافظوا عليه هو ثقافتهم الوطنية، فما زال الأبناء يتحدثون اللغة الأرمنية كما لو أنهم ولدوا ونشأوا في أرمينيا.. أي أنهم لم يتعرضوا لهزيمة ثقافية وحضارية، رغم كل الظروف السيئة والصعبة التي مرت عليهم، والتي لا تقل ضراوة عما تعرض له السوريون..

نحن لسنا شعباً واحداً

أكثر ما يلفت انتباهك وأنت تحاور سوريين في أوروبا، عن أسباب كراهيتهم لبعضهم البعض، هو حديثهم عن التمايزات الكبيرة بين أبناء المحافظات السورية المختلفة، من حيث ما يدور في الرأس من أفكار وعادات وتقاليد وطقوس اجتماعية، لدرجة أن البعض تحدث صراحة بأنه اكتشف أننا في سوريا لم نكن شعباً واحداً، وإنما شعوباً سوريّةً، وعلى غرار ما حاولت روسيا تمريره في الدستور السوري الجديد قبل عدة سنوات.

وكما هو معروف في أوروبا، فقد تم توزيع اللاجئين ليس وفق رغباتهم، وإنما وفق خطة جغرافية معينة، وهو ما أدى إلى أن يتواجد في المدينة الواحدة عدد كبير من السوريين، لكن كل واحد منهم من منطقة ومحافظة أخرى، وقلما تجد عائلتين سوريتين من نفس المحيط الجغرافي في المدينة الأوروبية الواحدة، باستثناء المدن الكبرى، والعاصمة على وجه الخصوص.

بمعنى آخر أن الأسرة السورية اللاجئة مضطرة للتعامل مع ما هو موجود، وحدود الاختيار عندها شبه محدودة.

لذلك أول ما يأتي اللاجئ إلى أوروبا، يشعر بالغربة الشديدة والضياع، جراء المجتمع الجديد واللغة التي لا يعرف منها شيئاً، لهذا يأخذ بالبحث عن أي أسرة سورية تتحدث لغته وتفهم عليه، وحالما يجد هذه الأسرة ينفتح عليها بالكامل، كما لو أنه وقع على أحد من أفراد عائلته المقربين، ثم بعد أن تستقر أموره ويتعرف على محيطه الجديد، يبدأ باكتشاف التمايزات بينه وبين الآخرين من السوريين، والتي لم يكن يفكر بها من قبل، جراء الوحشة والخوف من كل شيء.. فهو قادم إلى أوروبا وذاكرته مثقلة بالأحاديث النمطية للمشايخ والمجتمع العربي عن فساد المجتمع الأوروبي، لدرجة أن البعض كان يعتقد أنه حالما يصل إلى أوروبا، فسوف يأخذون بناته لتشغيلهم بالدعارة، وأولاده الصبيان لتعليمهم الحشيش والمخدرات والمثلية الجنسية..

لذلك بحسب ما حدثنا أحدهم، أن الانفتاح الشديد ومن ثم التراخي والتراجع في العلاقات بين الأسر السورية في أوروبا، برأيه، هو ما يفتح المجال لإثارة التساؤلات، والتي منها تنشأ بداية الخلافات، حيث يأخذ البعض بالتساؤل: عندما كان بحاجتنا جاء إلينا وبعد أن استقرت أموره ابتعد عنا.. وبعد ذلك يبدأ حديث المصالح والنفعية، بأن السوريين ينتمون إلى هذه الثقافة، ويعزون هذا الأمر إلى الاختلافات بين أبناء محافظة وأخرى، ويبدأ يتسرب لديهم اعتقاد بأننا لسنا شعباً واحداً، وإنما عدة شعوب كنا نعيش في بلد واحد.

هل اللاجئون متساوون..؟

من الأسباب التي طرحها البعض، عن أسباب ابتعاد السوريين عن بعضهم البعض في أوروبا، ولفتت انتباهنا، هي أن أوروبا ساوت بين جميع اللاجئين، بغض النظر عن مستواهم الثقافي والعلمي، فالبروفيسور في الجامعة شأنه شأن من كان يعمل في سوريا حفاراً للقبور.. ومن ثم عززت لدى هذا الأخير هذه المساواة، فبات يقول صراحة: كلنا لاجئون، لماذا تتكبرون علينا..؟

وبحسب ما أخبرنا أحد السوريين الذي تحدث في هذا الجانب، وهو يحمل شهادة الدكتوراه في اختصاصه، ويعيش في فرنسا، أن في مدينته عدد كبير من الأسر السورية، وأغلبهم غير حامل لأي شهادة علمية، لذلك لم يستطع سوى النأي بنفسه عنهم، بعد أن وجد فارقاً ثقافياً كبيراً بينه وبينهم، لم يكن قادراً على تجاوزه رغم محاولاته الكثيرة.. وهو يلقي باللائمة على الطرف الآخر، الذي وجدها فرصة لكي يتساوى معه.. بينما على أرض الواقع، هذا الكلام غير صحيح بحسب قوله، وإنما يجب على كل شخص أن يدرك قدره وقدر الآخرين.

الغربة مضيعة الأصل 

وهناك من تحدث عن أننا كنا نعيش في سوريا ضمن محيط جغرافي له خصائص سواء من حيث التراتبية العشائرية، أو من حيث التراتبية المناطقية، فابن المدينة لا يرى نفسه متساوياً مع ابن الريف، وابن العشيرة الفلانية الذي كان يحظى بالتقدير في قريته واكتسب الكثير من خصائص هذا التقدير في شخصيته، وجد نفسه في أوروبا بلا هذه الميزة.. إضافة إلى كل ذلك، وبحسب ما قالت إحدى السوريات التي حاورناها، أن ذاكرتنا الجمعية عن بعضنا البعض كسوريين، فيها تكريس لأنماط محددة تشبه الأحكام النهائية، مثل فكرة ابن حلب عن ابن إدلب، أو ابن حمص عن ابن حماة وابن الدير عن ابن الرقة.. وهكذا.. ورأت أن هذا التكريس لعب عليه نظام الأسد كثيراً من أجل بث التفرقة بين أبناء الشعب السوري، ثم أصبح ينتقل معنا أينما توجهنا.

كما أشار البعض إلى ظاهرة الكذب بين السوريين، حيث أن الكل في المجتمع الغربي يريد أن يقدم نفسه على أنه يستحق بجدارة اللجوء، من خلال تاريخه الثوري ومشاركته في مصارعة النظام.. بالإضافة إلى أن ظاهرة الشك بالعمالة للمخابرات السورية، انتقلت إلى السوريين في أوروبا، وهي تركت أثراً واضحاً في تعامل السوريين مع بعضهم البعض، إذ أن الكثير من هؤلاء الذين يعيشون في أوروبا، يخشون على أهلهم في الداخل، ويعتقدون أن المخابرات تلاحقهم عبر هؤلاء العملاء في الخارج..

رأي خبير اجتماعي 

حدثنا خبير اجتماعي وباحث في مجال التربية، أن ما يجري بين السوريين الذين لجأوا إلى أوروبا، لا يمكن وصفه بالكراهية، وإن كان يبدو في الظاهر، بأنهم يكرهون بعضهم البعض، أو لا يحبون الخير لبعضهم، كما يلخص البعض المسألة، مشيراً إلى أن أي مجتمع يتم انتزاعه من أرضه ومحيطه الاجتماعي، يتعرض لنفس هذه المشاكل.

وأضاف الخبير، الذي طلب عدم الكشف عن اسمه، وهو يحمل شهادة عليا في الدراسات الاجتماعية والتربية،
 أن المشكلة الأخرى التي يعاني منها السوريون أيضاً، هي بين اللاجئين الجدد والمقيمين القدامى، حيث أن التعامل بين الفئتين شبه معدوم، وفيه تبادل خطير للاتهامات، التي لا تخلو من العدوانية وقد تصل إلى حد الاحتقار في بعض الأحيان من قبل المقيمين القدامى، الذين ينظرون للاجئين على أنهم يشوهون صورتهم في المجتمعات التي اندمجوا فيها.. فضلاً عن أن اللاجئين الجدد يعتقدون بأنهم كشفوا هؤلاء على حقيقتهم.. إذ أن الصورة المكرسة عنهم باعتبارهم يقيمون في أرقى دول العالم، أنهم أثرياء وراقين ويتعاملون بالاتيكيت، ثم تبين لهم أن الكثير منهم حشاشون أو لاعبو قمار، وضائعون في زحمة الحضارة الأوروبية، ولا يمتلكون التقدير الذي يحاولون إظهاره أمام الناس عندما كانوا يزورون سوريا، أو من خلال أحاديث أهاليهم عنهم في سوريا.

ويرى الخبير الاجتماعي، أن هذه الأمراض لن يحلها هذا الجيل، بل سوف يحلها جيل الأبناء عندما يكبرون، مع اعترافه بأن الأبناء ضمن هذه الأوضاع سوف يكونون ضحية، لأنهم سوف يفقدون هويتهم الوطنية والدينية واللغوية، وقد يتأثرون بهوية مختلفة عن بيئتهم، كالمغاربية على سبيل المثال، والتي تتمتع بتواجد قوي في المنطقة الأوروبية، وبالذات في فرنسا وبلجيكا وهولندا وسويسرا وغيرها من الدول.

ويضيف أن الحل من وجهة نظره هو البحث عن نقاط التقاء ضمن حالة مؤسسية، يتلاقى فيها السوريون كل فترة في مكان معين، بعيداً عن العلاقات والزيارات العائلية الثنائية، والتي بحسب رأيه هي من تخلق سوء التفاهم وتظهر التمايزات، ومشاكل القيل والقال التي يتميز بها مجتمعنا، وتقود لاحقاً إلى فرقة ونزاع قد تصل إلى حد الخصومة النهائية.

ويرى أخيراً، أنه في ظل عدم قدرة السوريين على زيارة بلدهم، لا بد أن يجدوا أرضيات مشتركة تجمعهم بعيداً عن أمراض المجتمع التي حملوها معهم من بلدهم.. فلا بد أن ينزلوا هذه الحمولة عن ظهورهم، لما فيه خير الأبناء والحفاظ على ثقافتهم ولغتهم.

ترك تعليق

التعليق