مع نزيف الدماء.. سوريا تنزف عقولا وكفاءات

 


 
القاضي الذي فضح تورط النظام في مذبحة القبير بلا عمل، ويستجدي علاج أطفاله!

 الكفاءات السورية تواجه صعوبات في الحصول على تأشيرات إلى معظم دول العالم

 القطاع الطبي أشد المتضررين من نزيف الأدمغة
 
سوريا لا تنزف دماء فقط بل عقولا وكفاءات أيضا.. وهذا النزيف الذي يلقي بأبناء سوريا المتعلمين والمدربين خارجا، ليس بأقل خطورة من ذلك الذي يلقي بأبناء سوريا في بطن الأرض، وإن كان وقع الأخير أشد إيلاما ومضاضة من وقع السيوف.

لقد ركزت معظم وسائل الإعلام على تعداد اللاجئين السوريين الذي يفرون من بلدهم، وعلى تصاعد هذه الأعداد بشكل مخيف، لكن قلة قليلة جدا خاضت في تفاصيل هذا التجمع الهائل من اللاجئين، وما يمكن أن يمثله من خسارة هائلة للبلاد نتيجة فرار أعداد لايستهان بها من الطاقات العلمية والكفاءات نحو الخارج، وهو ما يعرف بظاهرة "نزيف العقول".

 تجاوز الخطوط الحمراء

 لطالما عانت سوريا خلال العقود الأخيرة من مشكلة "نزيف العقول"، لكن المشكلة في السنتين الأخيرتين تجاوزت الخطوط الحمراء، بعد خلو بعض المناطق السورية من أي كفاءات علمية، لاسيما في المجال الطبي.
 وقد أثر نزيف العقول والكفاءات على مختلف القطاعات في سوريا، فتناقص عدد المعلمين والمحامين والمهندسين والصحافيين وغيرهم، لكن القطاع الطبي كان أشد القطاعات تأثرا، فقبل نهاية 2012، أكدت منظمة الصحة العالمية أن كلّ الأطباء النفسانيين التسعة، وأكثر من نصف أطباء حمص، قد هجروا هذه المحافظة إلى خارج البلاد، وأن العيادات التي يديرها الهلال الأحمر السوري غدت بلا جرّاحين ولا خبراء طبيين.
 لجنة التحقيق الأممية المستقلة حول سوريا، قالت في أحدث تقاريرها الصادرة هذا الشهر إن أخطر خصائص النزاع في سوريا، هو دخول القطاع الطبي فيه على خط الصراع، حيث تم استهداف العاملين والمنشآت الطبية، فضلا عن تحويل بعضها إلى ثكنات.

 كفاءات كثيرة واجهت صعوبات جمة في الحصول على تأشيرات إلى أوروبا ودول الخليج، فانتهى بها الأمر إلى مخيّمات اللاجئين في الدول المجاورة، حيث حاولت وكالات الإغاثة استثمار مهارات هؤلاء لمساعدة الوكالات على تنفيذ برامجها الصحية والتعليمية.
 لكن هناك كفاءات أخرى قرّرت البقاء متحدية كل المخاطر، في سبيل تلبية احتياجات السوريين الباقين داخل البلاد.

 شبكة "إيرين" الإنسانية التابعة للأمم المتحدة، نقلت شهادات كفاءات سورية داخل وخارج البلاد، حول ما يواجهونه من عقبات وتأثير النزاع الدامي على نشاطاتهم.
 بيان مهندس مدني من حمص، قال: أنا لن أترك سوريا لأن عندي أملا بمستقبل بلادي، نحن نعمل على بناء مستقبل سوريا، ولذا فإن عندي مسؤولية لابد من البقاء لإنجازها.
 ويضيف: طلبت من زوجتي المغادرة لأنه ليس المكان غير آمن هنا، لكنّها لا تريد الذهاب إلى أيّ مكان.. إنها معلمة، وأنا مهندس مدني، ومع ذلك فإني لم أدخل مكتبي منذ سنتين.

 ويوضح بيان: بدلا من عملي المعتاد، أسّست تجمّع مهندسي سوريا الأحرار، في سبيل الاستفادة من طاقات المهندسين الذين ما زالوا داخل سوريا. ويضم تجمعنا حوالي 70 مهندساً في حمص، من مختلف الاختصاصات: ميكانيك مدني كهرباء، وحاسوب.
 ويواصل: نظمنا أنفسنا للعمل في أي مهمة ملحة، من تنظيف الشوارع إلى إصلاح خطوط الكهرباء، ونحن نعمل أيضا على دراسات خاصة بإعادة إعمار سوريا.. أعرف أن هذا جهد نظري لكن من المهم جدا أن نكون مستعدين عندما يحين الأوان.
 ورغم أن لا أحد منّا يعمل في وظيفته الأساسية في هذه الظروف، لكنني سعيد بالبقاء هنا، كان لدي الكثير من المهام قبل النزاع، وأعتقد أنه سيكون لدي مهام أكبر وأكثر بعد انتهائه.

 بين المغادرة والبقاء

 محمد الخطيب، 27 سنة، معلّم من تدمر، يقول: كنت أدرّس الإنجليزي في المرحلة الأساسية، وقد اعتقلت في شباط/فبراير 2012 وسجنت 6 شهور لأنني كنت ناشطاً. وفي السجن، ضربوني بشكل مؤذٍ وكسروا أضلاعي.
 ويردف: تركت سوريا مباشرة بعدأن أطلقوا سراحي لأني إن بقيت فسيعتقلونني من جديد.. مدرستي الآن مغلقة بسبب القصف، فيما كانت قبل الأزمة تضم بين 20 و25 معلماً، 6 من هؤلاء تقريبا انضمّوا إلى حركة الاحتجاج، وكانوا مضطرين مثلي لمغادرة البلاد، رغم صعوبة ذلك بالنسبة لهم ولعائلاتهم، ولأطفالهم خصوصاً، حيث لاتعليم يتلقونه.
 ويشرح الخطيب أوضاعه الحالية: استأجرت شقّة في القاهرة وشاركت فيها أصدقاء لاجئين من سوريا، وقد استطعت الحصول على عمل إداري براتب يعادل 200 دولار شهريا. مع إني أحتاج 300 إلى 400 دولار لتدبر أمور المعيشة، وهذا ما يدفع عائلتي لأن ترسل لي بعض المال الإضافي... أشتاق إلى سوريا ومدينتي وأصدقائي، لكنّي لا أستطيع العودة. الحياة في مصر قاسية، وقد حاولت الذهاب إلى أوروبا، لكن ليس هناك بلد يمنحني تأشيرة.

 أبو عدنان, 30 عاما، طبيب أسنان من دير الزور يقول: أنا طبيب أسنان، ورغم ذلك لم أستطع الحصول على عمل في مجال اختصاصي منذ أكثر من سنة، تم تدمير عيادتي بالكامل بسبب القصف.
 ويروي أبو عدنان عن نقص حاد في عدد الأطباء بدير الزور، ما دفعه لتجاوز اختصاصه قليلا، والمناوبة في مشفى ميداني، حيث يخيط الجروح أو يعطي الحقن، مضيفا: في أغلب الأحيان نكون مضطرين لبتر الأطراف لأننا نفتقر إلى التجهيزات الازمة لمعالجة الإصابات.
 وبالنظر إلى ما حوله من الخراب، يرى طبيب الأسنان أن مستقبله لن يكون جيدا، فكل شيء مدمر، وهو ما سيتطلب عقودا لإعادة إعماره.

 طلال حوشان، 49 عاما، قاض من محافظة حماة، يقول في شهادته: تركت سوريا لأنني لم أكن قادراً على تحمل جرائم النظام أكثر من ذلك، هربت مع عائلتي مباشرة بعد مذبحة القبير، وهي بلدة قرب حماة، شهدت مجزرة مروعة في يونيو/حزيران 2012. ويواصل: رأيت جثث أربعة أطفال وإمرأتين، وقد كان واضحاً أنهم أعدموا، وبصفتي مدعياً عاماً كنت مخولاً بفحص جثث القتلى، وبينما كنت أفعل ذلك، كنت ألعن النظام لأن المعلومات التي لدي كانت تقول بمسؤوليته عن المذبحة، وأثناء ذلك سمعني أحد الجنود وطلب مني أن ألزم الصمت، وفي اليوم التالي، اتصلت بالجيش السوري الحر، الذي تولى تهريبي عبر الحدود إلى تركيا.
 ويتابع حوشان: كان عندنا شقّة جميلة وكبيرة، الآن نحن نستأجر في جنوب تركيا شقة أصغر بكثير، أنا ليس لدي عمل ولا دخل، بعنا سيارتنا، وتولى بعض أصدقائنا مساعدتنا، ولكننا أفضل حالاً من معظم اللاجئين.
 ويستدرك: لدي قلق كبير بشأن أطفالي. عندي 4 بنات وولدين، اثنان منهم مريضان جدا ويعانون اعتلالاً في القلب، ولم يزوروا طبيباً مختصاً منذ وقت طويل...أودّ أخذ عائلتي إلى السويد لأن لديهم معالجة متقدّمة جدا لمرض طفليّ، لكن السويد رفضت منحنا تأشيرة دخول.. أنا لا أكترث بنفسي، لكن عائلتي تحتاج المساعدة حقاً، فحالة أطفالي تسوء يوماً بعد يوم.

ترك تعليق

التعليق