"رشوة.. تعتيم.. رسالة مبطنة.. استغباء".. استراتيجية النظام الإعلامية في الترويج لأدائه المالي والاقتصادي

منذ أسابيع قليلة، كان أديب ميالة، حاكم مصرف سوريا المركزي، يؤكد لتجار دمشق أن الليرة والاحتياطي بخير، وأن تمويل المستوردات من ثوابت السياسة المالية الرسمية، وأن المركزي قادر على الوفاء بالتزاماته في هذا الشأن.

وعلى نفس صفحات وسائل الإعلام المحسوبة على النظام، كنا نقرأ منذ أسابيع فقط، أن ميالة وتجار دمشق يتبادلون التأكيد على أهمية سياسة تمويل المستوردات، للحفاظ على قدرات التجار في تأمين السلع الأساسية للمواطن بأسعار مقبولة، دون الخضوع لسعر الدولار، المتذبذب صعوداً، في السوق السورية.

لكن منذ أيامٍ فقط، اكتشف الجميع في وسائل الإعلام المحسوبة على النظام، أن التجار كانوا يسرقون المركزي السوري، عبر سياسة تمويل المستوردات،....حتى التجار أنفسهم أقرّوا بذلك، حسب وسائل الإعلام تلك!

كان الاكتشاف على ما يبدو متأخراً، أو أن المركزي كعادة باقي مؤسسات الدولة المحتكرة من جانب نظام الأسد، يعتمد سياسة اللف والدوران، كي لا يقرّ بواقع الأمور....

فالمركزي بات عاجزاً عن ضبط دولار السوق السوداء، ومن ثم بات عاجزاً عن تمويل المستوردات، كما أنه بات عاجزاً عن تغطية بعض قروض المصارف الحكومية،...وبدلاً من الإقرار بأن الاحتياطي الأجنبي الموجود في جعبة المركزي بات في خطر، قررت أروقة صنع القرار المالي والإعلامي في كواليس النظام بدمشق، أن تعتمد بروباغندا إعلامية جديدة للتبرير....لكن لا بد من التخبط في بادئ الأمر.

أولاً، التعتيم...مؤسسات الدولة المعنيّة، ووسائل الإعلام الرسمية، لا تنطق بكلمة، لكن الأمور تسير على الأرض، باتجاه توقف تمويل المستوردات...والتجار يبدأون بالشكوى...

ثانياً، التسريب...صحيفة اقتصادية مقرّبة من النظام، تسرّب خبر وقف تمويل المستوردات، نقلاً عن تجار، وليس عن مسؤولين...

ثالثاً، خطوات فعلية....فالمركزي يرفع بصورة مفاجئة سعر الدولار في نشرته الرسمية ليصل في بضعة أيام إلى 95 ليرة للدولار تقريباً، بعد أن بقي شهوراً عند حاجز 82 ليرة....رسالة مبطنة إلى الجميع...اقتربت لحظة الإعلان رسمياً عن وقف تمويل المستوردات...

رابعاً، تناغم كبير بين وسائل الإعلام المحسوبة على النظام، في الحديث عن تلاعب التجار واستغلالهم لعملية تمويل المستوردات، بصورة لا تخدم المواطن، ويحقق منها بعض التجار أرباحاً خيالية..

خامساً، تجار يقرّون بأنفسهم لوسائل إعلام رسمية، بأنهم مسؤولون عن فشل سياسة تمويل المستوردات...

هكذا تمرّر أدوات النظام الاقتصادية والمالية، عبر الإعلام، نقلاتها الخطيرة، ومن ثم تبدأ بالترويج لها..

وبالفعل بدأ إعلام النظام بالترويج لضرورة وقف تمويل المستورداـت، وهو الأمر الذي بقي خطاً أحمراً قرابة السنتين...

والغريب أنك إن رجعت إلى وسائل الإعلام ذاتها تقريباً قبل ثمانية أو تسعة أسابيع فقط، تستطيع أن تجد فيها مواداً يمدح فيها التجار سياسة تمويل المستوردات، وهو أمر طبيعي، فهي سياسة تخدم مصالحهم، وتعزز أرباحهم...

لكن اليوم، تجد التجار أنفسهم، على تناقض مع مصالحهم، يقرّون بضرورة وقف تمويل المستوردات، خدمة للصالح العام!

في صحيفة تشرين الرسمية اليوم صباحاً، تنشر الجريدة مادةً تروّج من خلالها لوقف تمويل المستوردات، وتنقل على لسان عدد من أعضاء غرفة تجارة دمشق، إقرارهم، بمسؤولية التجار عن الإخلال بالتزاماتهم بخصوص سياسة تمويل المستوردات، فهم، حسب الجريدة، وبإقرارهم، كانوا يشترون البضائع بأسعار مخفضة، وبدولار مسعّر من المركزي، ليبيعوها للمواطن بسعر السوق السوداء...وهكذا كان القطع الأجنبي المهدور لصالح سياسة تمويل المستوردات يذهب فعلياً إلى جيوب التجار، وليس لصالح المواطن....

يبقى السؤال: هل حقاً اكتشف المركزي وباقي مؤسسات الدولة المعنية تلك الحقيقة اليوم فقط؟

أم أن النظام كان يشتري ولاء بعض التجار في الداخل، مقابل تمويل مستورداتهم بدولار مخفّض، ومن ثم يبيعون البضائع بدولار مسعّر حسب السوق السوداء، ليقضموا قيمة تمويل المستوردات لصالحهم؟!

رغم كل الحديث المبطن والمعلن، في الشارع، وعبر وسائل الإعلام، حتى الرسمية منها، عن تجار الأزمات الذين تكاثروا في سوريا، وعن الارتفاع المتكرر في أسعار السلع....لم يكتشف المركزي ومؤسسات الدولة الرسمية، حقيقة أن التجار ينهبون خزينة الدولة الرسمية، عبر سياسة تمويل المستوردات، إلا اليوم!

لكن على ما يبدو، بات المركزي عاجزاً عن دفع تلك الرشوة لتجار الداخل....فالأخير أوعز منذ أيام فقط بعدم منح الصناعيين والمستوردين أي موافقات على استيراد مادة المازوت والفيول، لحين وضع الضوابط اللازمة لعملية تمويل المستوردات الخاصة بالمازوت والفيول من المصرف حصرياً....

وفي الأمس فقط، أشارت مصادر مصرفية مطلعة، حسب وسائل إعلام موالية، إلى أن مجلس النقد والتسليف لم يمنح الموافقة للمصرف التجاري السوري على طرح قروض فوق الراتب للفئات 100-200-300 ألف ليرة بعد مضي أكثر من أربعة أشهر على إعلان المصرف طرحها رسمياً بداية آذار الماضي.

الخير الأخير يشير إلى أن مصرف سوريا المركزي، بدأ يتلمس القطع الأجنبي بحذر، خشية نفاذه، فبعد أربعة أشهر من الوعود بإطلاق قروض لذوي الدخل المحدود، لا يبدو أن المركزي مستعد لتغطية هذه القروض...فمن المعلوم أن المركزي هو المسؤول عن ضمان كل المصارف العامة والخاصة في حال إفلاس أحدها، وهو أمر يحدث حينما يعجز مصرف ما عن تحصيل النسبة العظمى من فوائد القروض التي يمنحها...

فإذا علمنا أن المصرف العقاري وحده أقرّ بـ 15 ألف متعثر عن السداد في سجلاته....فما بالك لو أخذنا بعين الاعتبار المتعثرين عن السداد لدى كافة المصارف العاملة في سوريا، من خاصة وعامة.

مصرف سوريا المركزي بدأ يدخل النفق الضيق...فها هو يوقف قروض التجاري، ويروّج لوقف تمويل المستوردات...

إحدى التفاعلات السياسية الهامة للخلاصة الأخيرة، هي أن النظام بدمشق بات عاجزاً عن دفع الرشوة "الدسمة" التي كانت تقدّم للتجار في الداخل، عبر سياسة تمويل المستوردات...ويبدو أن النظام يقول للتجار اليوم: "حصّلوا أرباحكم بعيداً عني، فقد دخلت مرحلة الخطر المالي".

بطبيعة الحال، لا يدخل ما سبق في خانة التشفي، فبالنهاية، هي خزينة الدولة السورية الرسمية، أي أموال كل السوريين، تلك التي هُدرت بصورة غير مسؤولة، خاصةً في خانة تمويل العمليات العسكرية والأمنية للنظام، فكان ذلك على حساب تمويل المستوردات، ودعم الليرة، وبالتالي على حساب لقمة المواطن السوري، بالمحصلة.

لكن ما سبق أيضاً، يدخل في خانة تعريّة سياسة أدوات النظام المالية والإعلامية، وسياسة خداع المواطن وحجب الحقائق عنه، والتعامل معه بعقلية الاستغباء.

ترك تعليق

التعليق

  • 2013-06-01
    ليش في تجار ازمة بسوريا اكتر من الحكومة ما خلت شغلة اساسية للمواطن ما رفعت سعرا من المازوت للبنزين للغاز للدوا للطحين للاسمنت للسماد ما في شي اساسي بالحياة تصيطر عليه الدولة الا استغلته وتاجرت فيه بقى مو عتب عالتجار