النظام يستحضر التجربة اللبنانية.. والاقتصاد السوري في عنق الزجاجة

تختلف الظروف التي عاشتها لبنان خلال الحرب الأهلية، عن الظروف التي تعيشها سوريا اليوم، لكن هناك من يحفظ الدرس اللبناني عن ظهر قلب، ويريد نقل التجربة الاقتصادية بحذافيرها، وبوتيرةٍ أسرع.

بانوراما الليرة اللبنانية
بنظرة بانورامية سريعة على الحالة النقدية اللبنانية نجد أن أهم اختلافٍ بين الليرة السورية والليرة اللبنانية أنها تلك الأخيرة كانت تساوي في عام 1975 ما يقرب 2.8 دولار، كانت مغطاة وبشكلٍ كبير بالعملات الصعبة والذهب، "حيث اشترى المصرف المركزي اللبناني ما يقارب 9.2 مليون أونصة ذهب بسعر وسطي 45 دولار، أي بمبلغ إجمالي لا يتجاوز 414 مليون دولار باتت اليوم تقارب 13 مليار دولار ومازالت موجودة إلى اليوم". وخلال عشر سنواتٍ من الحرب لم تخسر الليرة اللبنانية إلا نصف قيمتها حيث قاربت الـ 5 دولار، ليتم تركه بعد ذلك حيث بلغ في عام 1986 حوالي 87 ليرة، ووصل في عام 1987 إلى 500 ليرة لبنانية، ولم يعد المركزي اللبناني يتدخل في سعر الصرف، وتم رفع الدعم عن المازوت والبنزين في ذلك الوقت، وكان لتراجع أسعار البترول عالمياً وانخفاض دخل دول الخليج أثراً على الحالة اللبنانية في عامي 1986 و1987.

ومصادفةً في الفترة نفسها شهدت سوريا أيضاً ارتفاعاً لسعر الصرف حيث قفز من سعر 14 إلى 45 ليرة، مع اختلاف الأسباب التي تتمثل في حصار الثمانينات على سوريا، إلى جانب سرقة رفعت الأسد "شقيق حافظ الأسد"، لأموال مصرف سوريا المركزي، وهذا ما أكده مصطفى طلاس وزير الدفاع الأسبق في مذكراته .

وفي الوصف الاقتصادي يعبر عن الاقتصاد اللبناني أنه slow motion، بينما في سوريا كان الحال عبارة عن high speed، فخلال عامٍ واحد خسرت الليرة السورية ما يزيد عن نصف قيمتها وهو ما خسرته الليرة اللبنانية خلال عشر سنوات، وعلى صعيد الأرواح فطيلة الحرب اللبنانية التي امتدت من 1975-1990 مات 130 ألف شخص، بينما نحن خسرنا 100 ألف مدني و50 ألف عسكري، خلال عامين ونصف، وتتشابه الظروف اللبنانية مع السورية لناحية الهجرة وخسارة الرأس المال البشري.

دور بنكي أكبر
وبشكلٍ مفتعل يقترب الاقتصاد السوري حالياً من الحالة اللبنانية رغم الفارق الكبير في الإمكانيات والقدرات، حيث تلاشت قدرة القطاعات الاقتصادية الحقيقية عن تحقيق أي أثر في بلدٍ تعيش حالة تدميرٍ ممنهج، لتحاول القطاعات غير الحقيقية إزاحتها عن الواجهة، وهذا ما بدى واضحاً في مطالب القطاع البنكي الخاص من حكومة النظام قبل فترة والمتمثلة بطرح سندات خزينة، أو ما يحلو للبعض تسميته بالاستثمار على الطريقة اللبنانية، أي قيام البنوك بشراء سندات الخزينة من الحكومة، لتغطية النفقات الجارية، واستمرار تدهور الاقتصاد وامتناع البنوك عن إقراض جهاتٍ أخرى.
وهنا علينا أن نذكر أن عملية الاستثمار على الطريقة اللبنانية جعلت ديون هذا البلد الصغير تتجاوز 40 مليار دولار ما يعادل "156 % من ناتجه المحلي"، في حين لم تكن تتجاوز 250 مليون دولار قبل الحرب، أما سوريا فلم تتجاوز نسبة دينها العام قبل عامين 31.9% من الناتج المحلي، ويتوقع خبراء أنها ارتفعت بشكل كبير خلال الفترة الفائتة، مع استمرار استنزاف الآلة العسكرية للاقتصاد السوري وما ترتب على ذلك من ديونٍ مضاعفة.

دولرة مخالفة
وبعيداً عن الحالة المصرفية فواقع النقد يشي بحالة استعجال في استحضار التجربة اللبنانية، حيث انفلت سعر الصرف في البلاد وبشكلٍ متسارع، وذهبت الاحتياطات من القطع الأجنبي والذهب سريعاً، وبدأت عملية الدولرة في الحياة الاقتصادية لكن بشكلٍ مستتر، ليظهر الفرق من جديد بين الحالة اللبنانية والحالة السورية، فالمصارف اللبنانية كانت تمتلك إيداعات كبيرة بالدولار، ليصبح التعامل فيه ضمن المعاملات الاقتصادية قانونياً وليس مخالفاً، كما تحولت البنوك مباشرةً للإقراض بالدولار، كما باتت الودائع أيضاً بالدولار، وكل العملة اللبنانية التي خرجت عادت إلى البلاد قطعا أجنبيا.

حتى في الرواتب
وفي مقاربةٍ أخرى من التجربة اللبنانية، فأيضاً تم رفع الرواتب والأجور خلال الحرب وأثناء تدهور العملة "حينها كانت العملة انخفضت بمقدار 480 %" بالنسبة نفسها التي زادت بها حكومة النظام الرواتب والأجور في سوريا وهي 40 %، ليتوقع مراقبون أن تأتي زيادة بنسبة 100 %، في استعادةٍ للتجربة اللبنانية التي لجأت إلى رفعٍ ثانٍ للرواتب بنسبة 100 %.
وهذا الاقتراب من الحالة الاقتصادية اللبنانية لا يبدو مبشراً، حيث تحتاج البلاد لعشرات السنوات لإعادة بناء البنى الاقتصادية في القطاعات الحقيقية، والتي يتم تغييبها، لبناء قواعد اقتصادية مختلفة، وبوتيرة متسارعة، تترك البلاد غارقةً بالديون وعالقةً في عنق الزجاجة.

ترك تعليق

التعليق