تمويل الكتائب المقاتلة للأسد...تحت مبضع "التشريح" (2-2)

حكام الخليج يعطون هامشاً من الحرية في تمويل الثورة لزعماء قبليين أقوياء في بلدهم

الفشل مصير أية تستوية سياسية لا تستوعب  القوى الإسلامية الجهادية 

ختمنا الجزء الأول من مقالنا هذا بخلاصة مفادها: حتى لو أرادت أنظمة الخليج الحاكمة أن تمنع تمويل الثوار غير الرسمي الآتي من أثرياء الخليج، فإنها لن تتمكّن من ذلك، أو بتعبيرٍ أدّق، هي لا تستطيع ذلك.
أما لماذا لا تستطيع أنظمة الخليج الحاكمة وقف التمويل غير الرسمي الآتي من بلدانها إلى بعض كتائب الثوار في سوريا؟

تركيبة أنظمة الخليج...واستحالة وقف التمويل غير الرسمي
في الإجابة نقول: تتركّز تركيبة الأنظمة الخليجية عموماً على هرمية قبلية، تنتهي بالقبيلة الحاكمة، التي تكون في حالة تحالف مع قبائل أخرى كبرى وفاعلة في تركيبة النظام، لذا نجد أن القبائل الحاكمة في الخليج تدخل في تحالفات متينة مع قبائل أخرى قوية داخل بلدانها، كي تعزّز استقرار حكمها، وفي هذا التحالف تقدّم القبيلة الحاكمة للقبائل المتحالفة معها ميزات ومساحات وهوامش مُتفق عليها.

لا يمكن لأية قبيلة حاكمة في الخليج أن تضغط على مكونات التحالف الذي تقوده بصورة قسرية قاسية، لأن ذلك يهدد استقرار أنظمتها.

ما سبق يعني أن القبائل المتحالفة مع القبائل الحاكمة تتمتع بهامش حريات كبير، تحت سقف الولاء للقبيلة الحاكمة.
هذا ما يفسّر مثلاً كيف أن آل الصباح، القبيلة الحاكمة في الكويت، تُبدي ميلاً نحو تسوية سياسية مع الأسد، علناً، وتقيم علاقات وأواصر ما تزال قائمة مع آل الأسد، حسب الكثير من الشهادات، سرّاً، وفي الوقت نفسه، نجد أن قبائل وقيادات قبلية كويتية تشكّل أبرز الداعمين الماليين للمعارضة المسلحة ضد الأسد وحكمه.

نفس الحالة، لكن في أجواء من التعتيم، تتم في الكثير من دول الخليج، ولدينا مثال، إمارة دبي، التي تقيم علاقات شبه علنية وديّة مع آل الأسد، والكثير من رموز النظام والمقربين منه يسرحون ويمرحون في ربوعها، في الوقت نفسه، هناك أفراد من العائلة وشيوخ قبليين إماراتيين بارزين، يقدمون دعماً مالياً لمعارضة الأسد، وقد اشتكى منهم النظام السوري أكثر من مرة وعلناً، عبر وسائل إعلامه، دون أن تقوم العائلة الحاكمة في دبي بأي إجراء تجاههم.

نقصد مما سبق أن حكام الخليج يعطون هامشاً من الحرية في تمويل الثورة في سوريا لزعماء قبليين أقوياء في بلدهم، خشية أن يصطدموا معهم، فيؤدي ذلك إلى قلاقل داخلية.

هذه الحقيقة أكدها الكثير من المراقبين، وكتب عنها الكثير من الصحفيين الغربيين، لكن دون أي رد فعل من أنظمة الخليج، حتى منها التي تفضّل التسوية مع الأسد، علناً أو ضمناً، والسبب كما قلنا عدم الاصطدام مع شخصيات تقليدية قبلية قوية في بلدانهم متعاطفة مع الثورة، لأسباب عقائدية بالدرجة الأولى، مما يزيد المشهد تعقيداً.

يمكن لنا أن نرجع إلى قصة ملتقى "العجمان" التي رويناها مطلع الجزء الأول من مقالنا، لنجد في متن التقرير الذي نشرته جريدة الرأي الكويتية عن الملتقى المذكور بداية الشهر السابق، كلمة "الجهاد" في بلاد الشام وسوريا، تتكرر في خطابات المتحدثين.

الكويت ذاتها تشهد دعماً من قيادات شيعية أيضاً للطرف الآخر من الصراع، أقصد النظام وحلفاءه، والسبب أيضاً في أن آل الصباح الحاكمين في الكويت لا يريدون تضييق هامش الحرية المتاح للفاعلين القبليين في بلدهم بخصوص الشأن السوري، خشية الاصطدام معهم، وتهديد الاستقرار الداخلي لحكمهم.

الدافع العقائدي يعقّد المشهد

الدافع العقائدي الذي يقف وراء تمويل الكثير من أثرياء الخليج للحراك الثوري المسلح في سوريا، يُعقّد المشهد، ويجعل فكرة أن يمنع حكام الخليج بصورة مباشرة وقاسية ذلك التمويل، ومعاقبة المقدمين عليه، أمراً مستهجناً في المجتمع الخليجي، ويهدد استقرار أنظمة الخليج عبر الاصطدام المباشر مع الميول الدينية والطائفية لقيادات وشخصيات قبلية فاعلة في تلك المجتمعات.

وكخلاصة لما سبق، من المستبعد أن تعمل أنظمة الخليج الحاكمة على منع تمويل الثورة بصورة جازمة. قد تصدر قوانين تمنع التمويل شكلاً، لكن من الناحية العملية لن يتم التشدد في تنفيذ ذلك، لأن عواقب التشدد هي الصدام مع الركائز المجتمعية القوية لتلك الأنظمة.

وهكذا نخلص إلى أن من الممكن إقفال صنبور التمويل الرسمي للثورة وكتائبها المسلحة، لكن لا يمكن إقفال صنبور التمويل غير الرسمي.

لا يمكن إغلاق كل "صنابير" التمويل

بطبيعة الحال، هناك أيضاً "صنابير" أخرى تموّل الحراك الثوري السوري، منها تمويل أثرياء سوريين، ومسلمين، وعرب من دول غير الخليج، لكن يبقى تمويل أثرياء الخليج الأكثر وفرةً من جانب، والأكثر رسوخاً من جانب آخر.

لذا، حتى لو أرادت دول الخليج حقاً وقف دعم الثورة، فإن ذلك الدعم سيتراجع نسبياً، لكنه لن يقف تماماً، وسيبقى هناك تمويل كافٍ لاستمرار العمليات الحربية، وشراء الذخائر وتهريبها عبر الحدود التركية أو الأردنية أو اللبنانية، رغم أنف حكومات تلك الدول، أقصد تركيا ولبنان والأردن، فتهريب السلاح عبر الحدود، خاصة السلاح غير الثقيل، أمر لا يمكن منعه تماماً، وإن كان من الممكن الحدّ منه.

الحل الأمثل لضبط التمويل هو توسيع هامش الإقناع للممولين بأن من الأفضل عدم التمويل، أو بالعكس، أي إقناعهم بالمزيد من الإغداق المالي على الثوار. ومسألة الإقناع تلك تخضع لعوامل عديدة، تدخل في سياق القوة الناعمة للدول، من قبيل الإعلام والاستخبارات والعلاقات المالية، والنفوذ المصرفي.

التمويل الذاتي

وفي هذا السياق، لا بد أن نشير إلى أن هناك جانبا من مسألة التمويل صعبة الضبط أيضاً، ونقصد بها التمويل الذاتي، وهو ما تعتمد عليه بعض الكتائب على الأرض، ولو جزئياً، من مثل الاستيلاء على مستودعات أسلحة للنظام، والسيطرة على آبار نفط وبيع بعض فوائضه، والممتلكات الشخصية العائدة لبعض المقاتلين الآتيين من خارج سوريا، أو حتى من بعض السوريين.

والتمويل الذاتي هنا آلية سبق أن شرحناها تفصيلياً في تقرير خاص بـ "دولة العراق والشام الإسلامية – داعش" التي تعتبر هذه الآلية من مصادر تمويلها الرئيسية.

وفي سياق متصل، نستطيع أن نذهب إلى أن التمويل الآتي للكتائب المقاتلة لنظام الأسد يخضع لعلاقة تحريضية مع إنجازات النظام، فكلما تقدم نظام الأسد وحلفاؤه على حساب المعارضة، كلما استفز ذلك المتعاطفين عقائدياً مع المعارضة المسلحة، وازداد تدفق التمويل. ربما لا نستطيع إثبات تلك العلاقة، لكن التحليل المنطقي يأخذنا باتجاهها، وهو ما يفسّر قدرة المعارضة على الوقوف على قدميها من جديد كلما تقدم الأسد عليها، من حين لآخر.

متى يُفيد التمويل تطلعات الثوار؟

يبقى أن نقول أن التمويل الآتي إلى المعارضة المسلحة لا يؤدي بالضرورة إلى إفادة الثورة، بقدر ما يفيد باستمرار الاقتتال وحالة الفوضى بالبلاد، ولا يمكن أن يحقق هذا التمويل غاياته المرجوة إلا في حال صبّ في المجرى الأكثر نفعاً للثورة، وأقصد هنا أن يصل إلى من يستحق التمويل من الكتائب العديدة على الساحة المعقدة للمعارضة المسلحة، تلك الكتائب الأكبر تعداداً، والأمتن تنظيماً، والأكثر فاعلية في مواجهة الأسد، وليس لكتائب أخرى تسعى لأن تكوّن إمارات حرب، أو تحصر اهتمامها بتجميع المال والسلاح ليكون لها مساحة في مستقبل سوريا، لا أكثر.

الكتائب التي تعمل على إسقاط الأسد حقاً، وتُحسن فعل ذلك عبر الائتلاف مع بعضها، والعمل المحترف والمدروس وفق تكتيك متفق عليه بينها وبين نظرائها، هي التي تستحق الدعم، لأنها قد تحقق غاياته، وهي إسقاط نظام الأسد.

وهو أمر يبدو أن الممولين غير الرسمين في الخليج، من قيادات قبلية وأثرياء، يدركونه تماماً، وفي مثال ملتقى "العجمان" سابق الذكر، نلحظ أن جيش الإسلام حصد 70% من تمويل الداعمين للثورة في الكويت، بعد أن تحالف مع كتائب وفصائل أخرى في دمشق وريفها، الأمر الذي يظهر أن هؤلاء الممولين يدركون أهمية وحدة الصف بين الثوار.

التمويل يعزّز الاتجاه السلفي في المعارضة المسلحة

لكن الحقيقة الأخيرة لا تمنع من الإقرار بحقيقة موازية لها، أن الممولين غير الرسميين في الخليج، يمولون تحديداً كتائب ذات توجّه عقائدي معيّن، يغلب عليها الميل الإسلامي – السلفي، وهو ما يعيدنا للسؤال الذي بدأنا به مقالنا، هل: يمكن إجبار كل المعارضين للأسد على الالتزام برغبة خارجية إقليمية -دولية لوقف الحرب في البلاد؟

نعتقد أن ما سردناه أخيراً من معطيات كافٍ للإجابة بالنفي على السؤال الأخير، وهو الفرضية التي سعينا لإثباتها في مقالنا هذا، وهي أن اتفاق أنظمة الخليج مع الغرب بالتنسيق مع روسيا وإيران لوقف الحرب في سوريا، لن يكون كافياً لإنهاء حالة الاقتتال بين المعارضة المسلحة، خاصة منها الكتائب الإسلامية ذات التوجه السلفي، وبين نظام الأسد.

كيف يمكن الدفع باتجاه تسوية سياسية ناجحة؟

وقف الاقتتال يتطلب تحييد أكبر قدر ممكن من القوى المسلحة الفاعلة على الأرض عن المعركة بالإقناع، وبالتزامن مع إقناع الممولين غير الرسميين لهذه القوى بضرورة وقف الحرب. ويتم ذلك عبر تقديم بديل سياسي عن الحرب، يلبي حدودا مقبولة من تطلعات تلك القوى، والترويج له إعلامياً بقوة.

يمكن بطبيعة الحال أن نتوقع بعض الحدود المقبولة من تطلعات القوى السلفية المقاتلة للأسد، والتي أبرزها: خروج الأسد والمقربين منه من المشهد السياسي السوري، وإعادة هيكلة الجيش والأمن في سوريا المستقبل بحيث يكون لتلك القوى دور فاعل في مستقبل هاتين المؤسستين، ناهيك عن إتاحة الفرصة لتلك القوى للمشاركة في العملية السياسية، وأن تحظى بالضمانات الكفيلة بأن لن يتم الانقلاب عليها في حال نالت السلطة في أية لعبة ديمقراطية مستقبلية، كما حصل في الحالة المصرية، وأخيراً، القبول بأسلمة جزئية لدستور البلاد المرتقب بصورة لا تتعارض مع منح هامش من الحريات الشخصية الأساسية للسوريين.

خاتمة

يعتقد البعض أن تعنّت الأسد ونظامه حيال أية تنازلات حاسمة في مؤتمر "جنيف2"، هو أبرز أسباب الفشل المتوقع للحل السياسي، لكن الواقع الميداني يقول بأن عاملاً آخر يلعب دوره أيضاً في تعقيد المشهد، يكمن تحديداً في قوة الفصائل الإسلامية الجهادية، التي يغلب عليها الميل السلفي، والتي تحظى بتعاطف ممولين غير رسميين خليجيين، وبالتالي فإن عدم استيعاب هؤلاء في أية تسوية سياسية مرتقبة، يكتب لهذه التسوية الفشل، ويعزّز حالة التعقيد والتفكك في المشهد الميداني السوري.

تمويل الكتائب المقاتلة للأسد...تحت مبضع "التشريح" (1-2) 

70% من تبرعات مجلس الداعمين للثورة السورية في الكويت يذهب إلى "جيش الإسلام". تحقّق الإرادة الدولية – الإقليمية بوقف الحرب لن يُنهيها ب... المزيد

ترك تعليق

التعليق