في ظلال تقرير منظمة الشفافية : "محنة" الثمانينات...واستراتيجية "الفساد والإفساد"

"الفساد والإفساد والاستبداد"، متلازمة لطالما رددها المفكر السوري، الطيب تيزيني، منذ العام 1976، في كتابه "من التراث إلى الثورة"، مُشيراً بصورة غير مباشرة إلى جملة تحولات قيميّة، عمل النظام السوري الأمني الاستبدادي على الدفع باتجاهها بقوة، بغية تعميم حالة التسييب القيمي حيال المال العام، والشرعنة الاجتماعية للرشوة والمحسوبية والفساد في سوريا.

وبفضل استراتيجية "الفساد والإفساد" التي اعتمدها الأسد الأب، ومن بعده الابن، صمد نظام حكم آل الأسد، لكن سوريا ترهلت اجتماعياً واقتصادياً، وحتى سياسياً.

واليوم تتبدى النتائج المُرّة لاستراتيجية تخريب القيم المجتمعية في سوريا، حيث بات بلدنا من بين البلدان العشرة الأكثر فساداً في العالم، حسب التقرير الأخير لمنظمة الشفافية العالمية.

وإن كان يحلو للبعض ربط هذا التدهور السريع لموقع سوريا في خارطة الدول الأكثر فساداً في العالم، بحالة الحرب والاقتتال الراهنة في البلاد، فإن هؤلاء ينسون أن سوريا لطالما احتلت مواقع متقدمة في قائمة الدول الأكثر فساداً في تقارير منظمة الشفافية العالمية طوال العقد الماضي.

ويكفي أن نرجع إلى تقرير المنظمة في العام 2010، حيث كانت سوريا مستقرة وخاضعة تماماً لحكم الأسد، لكنها رغم ذلك احتلت ترتيباً متقدماً بين أكثر دول العالم فساداً وتراجعاً في الشفافية المالية والاقتصادية، وجاءت في المرتبة 127 عالمياً من أصل 180 دولة، والمرتبة 15 عربياً، ولم يتحسن ترتيبها إلا بمقدار درجة واحدة عن المرتبة 126 التي احتلتها عام 2009.

ووصف تقرير المنظمة في العام 2010 الفساد في سوريا بأنه وباء مزمن يهدد اقتصاد الدولة، وأشارت تقارير مستقلة حينها إلى أن الفساد تغلغل في كل قطاعات الدولة، سواء كانت الجيش أو الشرطة أو الجمارك أو القضاء أو الاقتصاد أو التموين...إلخ

لكن المفارقة تكمن في أن صدور تقرير منظمة الشفافية العالمية الأخير تزامن مع الضجة الإعلامية المتعلقة باتهامات وجدل حول فساد في أروقة بعض مؤسسات الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة، خاصة وحدة تنسيق الدعم الإغاثي والإنساني. 

ورغم عدم ثبوت دقّة ما أُثير عن تساهل حيال المال المخصص للإغاثة، وتلاعب ومحسوبية لحساب أشخاص وجهات محددة داخل الوحدة، إلا أن هذه الضجة لم تكن الأولى من نوعها بخصوص وجود مؤشرات لفساد مالي في أداء بعض وحدات الائتلاف المعارض، وإن كانت الأكثر جذباً للاهتمام اليوم.

وكي تكتمل المفارقة، تزامن الحدثان السابقان، تقرير منظمة الشفافية العالمية، والضجة الإعلامية حول اتهامات الفساد داخل وحدة تنسيق الدعم، مع تقرير لصحيفة "ديلي تلغراف" البريطانية، يتحدث عن فساد قيادات في المعارضة المسلحة السورية، خاصة في بعض تشكيلات "الجيش الحر"، والتي تحول بعض قياداتها إلى "أمراء حرب"، يعتمدون السرقة والنهب والرِّشا والابتزاز والتهريب، وأحياناً الاختطاف، كوسيلة لجمع الملايين.

قد يخلص القارئ، خاصةً إن كان من الموالين لنظام الأسد، إلى خلاصة مفادها أن الفساد ديدن السوريّ، وأن المشكلة في المواطن المؤهل للفساد، وليس في القيادة التي لا تملك "عصا سحرية" للقضاء على هذا الفساد، حسب تعبير قديم استخدمه رأس النظام السوري منذ سنوات عديدة.

ويورد الكثيرون عبارة "كما أنتم يُولَّ عليكم"، لتبرير فساد السلطة، بأنه نتاج فساد المجتمع، وقابلية الإنسان السوري للفساد.

هنا نرجع إلى بداية مقالنا، إلى صاحبنا، الطيب تيزيني، الذي تجرأ أن يتحدث في لحظة تاريخية حرجة، في مقدمة كتابه "من التراث إلى الثورة" في العام 1976، عن أن نظام الأسد يعمل على إفساد السوريين، عبر شرعنة الفساد مجتمعياً، والتشجيع عليه، ومكافأة الفاسد بترقيته، ومعاقبة النزيه عبر الإطاحة به، في معظم الحالات.

حتى بات عُرفاً مثيراً للسخرية بين السوريين، وللمشاهد الكوميدية في الإنتاج التلفزيوني السوري، أن الفاسد يرتقي في سلالم المجد والنجاح الحكومي، وأن النزيه يُطاح به من قبل زملائه كي لا يعرقل مشاريعهم للرشوة أو المحسوبية.

وكانت حقبة الثمانينات تحديداً، الفصل الأكثر راديكالية في تلقيم السوريين جرعةً مكثفةً من الفساد، ساهمت بسرعة كبيرة في قلب المفاهيم القيميّة السائدة قبلها، حتى باتت الرشوة في موقع حكومي- "فلهوية"، والمحسوبية على حساب صاحب حقّ- "شطارة".

ويرتبط ذلك بما يسمى في بعض الأدبيات التاريخية والسياسية السورية، بـ "محنة الثمانينات"، والتي تمثلت بوصول الصدام بين الأسد الأب وخصومه من الإخوان المسلمين إلى ذورته، وجولته الأخيرة، في أحداث حماه، شباط عام 1982، والتي اتخذ بعدها النظام السوري خطاً راديكالياً في فرض القبضة الأمنية المشددة، والضرب بيد من حديد على كل من يُشتبه بارتباطه بأي نشاطٍ معارضٍ، إخوانيّ كان، أو يساريٍّ.

وقد تطلب نجاح فرض القبضة الأمنية الحديدية تلك، استراتيجية موازية اقتصادياً واجتماعياً، بغية تعزيز حالة خضوع المجتمع السوري برمته، وبكل قيمه واتجاهاته، لرغبات وتوجهات حافظ الأسد. تمثلت تلك الاستراتيجية بالتشجيع على الفساد المالي والاقتصادي الحكومي، واعتماد مبدأ "الولاء مقابل الفساد"، ففلتت أجهزة الأمن والجيش والجمارك وغيرها من مؤسسات الدولة على الصعيد المالي، وتزامن ذلك مع إحكام قبضة نظام الأسد على لبنان، التي تحولت إلى مصدر ثراء وفساد آخر موازٍ للحالة في الداخل السوري.

اشترى الأسد الأب ضمائر السوريين بالفساد، وكان يشدد على ترقية الموالين ذوي الثقة، مهما "فاحت" روائح فسادهم، ويطيح النزيهين من المشكوك بولائهم، مهما بلغ حجم أهميتهم للمؤسسة أو الشركة العامة.

بعد ثلاثة عقود، تربى جيلٌ، وُلد وعاش في ظل الأسد الأب، وعاصر انتقال كرسي الحكم إلى الابن، على قيم مجتمعية جديدة حيال المال العام والعمل الحكومي، تسودها مقولات "الشطارة" و"الفهلوية"، وتغيب عنها قيم "المال الحرام" و"اللعنة على المُرتشي" و"دعوة المظلوم"، وصولاً إلى وقتٍ بات فيه القاضي في القصر العدلي بدمشق، يدوّن على ورقة صغيرة "تسعيرته" لأحد المتنازعين، أحياناً، علناً، في مؤسسة يُفترض أن تكون من أقدس المؤسسات الحكومية من حيث النزاهة والتزام نصوص القانون وموجبات العدل.

واليوم، يحصد السوريون ثمار "محنة الثمانينات"، واستراتيجية "الفساد والإفساد"، عبر جيلٍ استمرأ المال الحرام، وتعوّد التعدي على أملاك الدولة وأموال المواطنين، فكانت النتيجة، أن معارضة الأسد، في جزءٍ منها، نسخة عن نظامه، فاسدة، وأحياناً مستبدة.

والحصيلة اليوم، نهبٌ غير مسبوقٌ لثروات وأملاك السوريين، على مقلبي النظام والمعارضة، وفي ظل الطرفين، حيث الانفلات من قيمة "المال العام"، تجمع الطرفين، وتعقّد المشهد السوري، وتجعل النفق المظلم الذي دخلناه يطول يوماً تلو الآخر.

لكن هل من سبل للتخلص من آفة الفساد، ولو تدريجياً؟

قد يكون من المناسب تخصيص مقالٍ آخر لهذه القضية، التي هي آفة لها دواؤها، ككل الآفات، لكن على الأطراف الفاعلة على الميدان أن تمتلك الإرادة للتخلص منها، خاصة أنها، حسب الكثير من المتخصصين، أبرز أسباب الانهيار الأمني والعسكري والمجتمعي السوري، الذي نحياه اليوم.

ترك تعليق

التعليق