سوريا وكوريا الجنوبية...كيف تكون سيرة الثانية عِبرة مفيدة للأولى؟ (3-3)

.التخطيط في كوريا الجنوبية يحظى بتنفيذٍ فعّالٍ ودقيق.

لا يحظى المدير بموقعه في كوريا الجنوبية إلا إذا أمضى 25 سنة في مهنة التعليم.

الربط بين التعليم والمهارات المطلوبة في سوق العمل في أعلى مستوياته في كوريا الجنوبية.

يتمتع راتب المعلم في كوريا الجنوبية بقوة اقتصادية تفوق مثيلتها للمعلم في الولايات المتحدة بحوالي 
2.4 مرة.

في الحلقتين الأولى والثانية من سلسلتنا هذه تناولنا بدايةً مقاربة لنقاط التشابه في التطورات التاريخية السياسية التي شهدتها كل من سوريا وكوريا الجنوبية، ومن ثم تناولنا تفاصيل النهوض الاقتصادي الكوري الجنوبي في مقابل تفاصيل التعثر الاقتصادي السوري.

وفي الحلقة الثالثة والأخيرة من سلسلتنا الخاصة بالدروس المُستفادة من المعجزة الكورية الاقتصادية، وإسقاطاتها المُمكنة على مستقبل سوريا، سنتناول بالتفصيل ملامح النظام التعليمي الذي اعتمدته كوريا الجنوبية لدعم مسعاها النهضوي، وسنحاول تلمّس مرادفاته في الحالة السورية، والإسقاطات الممكنة في المستقبل.

تطوير استراتيجيات التعليم، بين السبق الكوري، والتأخّر السوري

يُجمع المختصون أن وراء كل نهضة اقتصادية –اجتماعية نظاماً تعليمياً فعّالاً، وهذا ما ينطبق على النهضة الكورية، في حين أنه يبتعد عن الحالة السورية التي عانت تردياً عكسياً متصاعداً لمكانة التعليم وفاعليته خلال السنوات والعقود الماضية.

ورغم وجود العديد من نقاط التشابه في البنية النظرية للنظام التعليمي في كلا البلدين، كوريا الجنوبية وسوريا، يبدو أن الأولى طبّقت والتزمت، مُبكراً، بالاستراتيجية التربوية التي وضعها منظّروها، في حين كانت الخطة النظرية بعيدة تماماً عن الواقع العملي في الحياة التعليمية السورية.

وقد يرجع السبب الرئيس لنجاح العملية التعليمية في كوريا الجنوبية إلى الابتعاد عن استراتيجية "التلقيم" والتركيز بدلاً من ذلك على اكتساب المهارات وتعزيز القدرات الأساسية، والتطوير النوعي للتربية العلمية، فيهتم الكوريون منذ مرحلة رياض الأطفال بتربية الأطفال وبناء أجسامهم وتنمية لغتهم وذكائهم وغرس قيم التكيف الاجتماعي في نفوسهم وسلوكهم.

في المقابل، بدأت الجهات التعليمية المُختصة في سوريا الانتباه إلى مساوئ "التلقيم" والعمل على التخلص منه مطلع العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، حيث بدأ العمل على إحداث تغيير نوعي في المنهاج باتجاه التركيز على تطوير المهارات والقدرات، بدلاً من الحفظ، وإعادة تأهيل المدرسين في هذا الاتجاه، منذ العام 2005. وللأمانة التاريخية، فقد خطت وزارة التربية السورية، في السنوات الأخيرة، خطوات جادة، رغم الانتقادات والعثرات، باتجاه تغيير العقلية التعليمية، لدى المدرسين، وفي المناهج، على حدّ سواء. وإن كان هناك تعليق على هذه الخطوات الأخيرة على صعيد تطوير العملية التعليمية في سوريا، فهو لا يتعلق بفحواها، لأنه لم يُستكمل بعد، لكنه يتعلق بتأخر المسؤولين الكبير عن اللحاق بركب التغيير النوعي الذي طال طرق واستراتيجيات التعليم في معظم دول العالم، وتأخر كثيراً قبل أن يصل إلينا.

إذاً كوريا الجنوبية سبقتنا بعقود في تطوير استراتيجيات التعليم وطرقه، وحصدت النتائج لذلك، في حين بدأت خطواتنا الأولى في هذا الاتجاه منذ سنوات فقط، مما يعني، أن النتائج ستظهر على الأقل في الجيل القادم، هذا إذا استثنينا الكارثة التي حلّت بجيل كاملٍ من الأطفال السوريين الذين حُرموا من التعليم في ظل الحرب الدائرة في البلاد، مما يجعل متطلبات ترميم ما حصل أعقد وأكثر صعوبة.

الاستراتيجية التعليمية بين التخطيط والتطبيق...ما بين كوريا وسوريا

لكن في مقابل ما سبق، يبدو أن بعض الاستراتيجيات التعليمية في كوريا الجنوبية، كانت موجودة أيضاً في سوريا، ومنذ أوقات بعيدة، بل ربما زايدت سوريا على الكوريين فيها، ففي حين يُعتبر التعليم الابتدائي إلزاميا بسنواته الست في كوريا الجنوبية، مع مدّ هذه الإلزامية لتصل حتى التاسع في بعض المناطق الزراعية والمتخصصة بصيد الأسماك. نجد أن السوريين رفعوا سنوات الإلزام في التعليم حتى التاسع منذ عدة سنوات، وكان التعليم الابتدائي إلزاميا لديهم منذ عقود. لكن المشكلة كانت في التطبيق.

ففي حين تصل نسبة الأمية في كوريا الجنوبية بين الكبار إلى 1.7%، وإلى 0% بين الصغار، نجدها في سوريا، حسب الجهات الرسمية تصل إلى 5%، وإلى 20% حسب جهات غير رسمية، مع رصد مؤشرات عديدة لارتفاع نسب الأمية والإدبار عن التعليم في الأرياف، خاصة في العقد السابق، بعد موجة الجفاف والتردي الاقتصادي الذي أصاب المجتمعات المعتمدة على الزراعة في سوريا.

ورغم أن الأرقام الرسمية في سوريا تتحدث عن 2.8% نسبة تسرب من التعليم الإلزامي، تؤكد جهات غير رسمية ومختصون أن تلك الأرقام أكبر بكثير في الأرياف، في حين ينعدم التسرب من المدارس في كوريا الجنوبية تماماً.

هكذا يتضح ملمحٌ ثانٍ من ملامح الفرق بين تطور العملية التعليمية في الحالتين الكورية والسورية، ففي الأولى كان التخطيط يحظى بتنفيذٍ فعّالٍ ودقيق، في حين في سوريا كان التخطيط يحظى بفشلٍ عمليٍّ ملحوظ.

في المقلب الكوري: كفاءة المدراء ومكانة المرشد والربط بين التعليم وسوق العمل

في جانبٍ آخرٍ، ركزت الاستراتيجية التعليمية في كوريا الجنوبية على أهمية مؤهلات المدير في المدرسة، الذي لا يحظى بموقعه هذا إلا إذا أمضى 25 سنة في مهنة التعليم، كي يحظى بقدرٍ كافٍ من الخبرة العملية التي تُعينه على تفهم مشكلات المدرسين والطلبة، في حين في الحالة السورية كان تعيين المدير في معظم الحالات مرتبط باعتبارات حزبية سياسية، أو محسوبية وواسطات ونفوذ وعلاقات شخصية، أو في بعض الحالات، خاصة في السنوات الأخيرة، مع ازدياد مشكلات التعليم في سوريا، بات موقع مدير المدرسة غير مرغوب نهائياً بين العاملين في القطاع التعليمي، فتنفر معظم الكوادر التعليمية منه.

وفي وقتٍ مبكرٍ، ركزت كوريا الجنوبية على أهمية دور المرشد النفسي أو التربوي، في التعليم، وبدأوا بالتركيز على ذلك منذ نهاية الخمسينات من القرن الماضي، وهي حيثية في التعليم لم يتم التركيز عليها في سوريا حتى مطلع القرن الجاري، مع عدم إعطاء المرشد الدعم المالي والوظيفي والتأهيلي المطلوب، كما هو قائم في الحالة الكورية.

وفي ملمحٍ آخر في الفروق الاستراتيجية في التعليم بين البلدين، يبدو أن الربط بين التعليم والمهارات المطلوبة في سوق العمل، في أعلى مستوياته في كوريا الجنوبية، وهو ما فشل المسؤولون السوريون في تحقيقه رغم الحديث عنه كعنوان عريض لأهداف العملية التعليمية في سوريا طوال أكثر من عقد من الزمان.

وتُشابه الاستراتيجية التعليمية الكورية، نظيرتها السورية، في التركيز على أهمية التعليم المهني، لكن الخريج من التعليم المهني في كوريا الجنوبية يحظى بفرص عمل سريعة في سوق العمل، نظراً لاهتمام مهندسي هذا التعليم بمتطلبات السوق، وهو ما يمثّل أحد نقاط الضعف الرئيسية في التعليم المهني في سوريا.

ويركز الكوريون على رياض الأطفال، قبل الدراسة الابتدائية، كما ويعتمدون معايير صارمة للالتزام بساعات الدوام المدرسية والجامعية، في حين نجد أن التركيز على هذه النقاط في الحالة السورية أضعف بكثير، وإن كان قائماً بالفعل من الناحية النظرية.

وضع مالي مميز للمدرسين بكوريا الجنوبية

لكن بعيداً عن كل ما سبق، يبدو أن هناك فرقاً جوهرياً بين الركائز التي تقوم عليها العملية التعليمية في كوريا الجنوبية وبين نظيرتها التي تقوم عليها العملية التعليمية في سوريا، ففي الأولى يتمتع راتب المعلم في كوريا الجنوبية بقوة اقتصادية تفوق مثيلتها للمعلم في الولايات المتحدة بحوالي 2.4 مرة؛ لذا يلاحظ أن كثيرا من الخريجين الطموحين واللامعين يدخلون مهنة التعليم. أما في سوريا، يبدو أن مهنة التعليم من أقل المهن جذباً للطامحين واللامعين، نظراً لمحدودية مردودها المادي مقارنةً بمهن أخرى، وقد يكون ذلك أبرز الفروق التي تجعل العملية التعليمية في كوريا الجنوبية ناجحة للغاية مقارنةً بالحالة السورية.

أبرز الفوارق في التعليم...بين كوريا وسوريا

في الختام نلحظ جملة فوارق بين ملامح العملية التعليمية التي تميزت بها كوريا الجنوبية مقارنةً بسوريا، من أهمها: تنفيذ الاستراتيجية التربوية والتعليمية بصورة دقيقة، والاهتمام بتأهيل المُدرس وباستقراره المادي، التركيز على صرامة معايير تعيين المديرين وكفاءتهم، والربط بين التعليم والمهارات المُكتسبة فيه وبين حاجة سوق العمل ومُتطلباتها، وإعطاء المكانة المطلوبة للإرشاد النفسي في المدارس.

خاتمة: لماذا فشلنا، ونجح الكوريون؟

وفي ختام سلسلتنا، نُوجز أسباب الفشل السوري، الاقتصادي والتعليمي، مقارنةً بالنجاح الكوري الجنوبي، بجملة نقاط أبرزها: الخط السياسي المُعتمد والذي جعل الأولوية للسياسة على الاقتصاد، نسب الفساد الاقتصادي والإداري العالية، استمرار تحكم المنظومة الأمنية والعسكرية بالحياة السياسية والاقتصادية (على خلاف كوريا الجنوبية التي تخلصت تماماً من تأثير معظم مركبات هذه المنظومة منذ مطلع التسعينات بعد عدة مخاضات تاريخية)، عدم وجود حالة من الصرامة من جانب متخذي القرار والمسؤولين حيال عملية تنفيذ الاستراتيجيات الموضوعة قيد التطبيق.
نستطيع أن نضيف بطبيعة الحال نقاط أخرى تشرح لنا، لماذا فشلنا، ونجح الكوريون، رغم تماثل الفترة الزمنية وتقارب الظروف التاريخية...لكن ربما نكون أوجزنا في الفقرة السابقة أبرز الأسباب، على أمل التخلص منها في سوريا المستقبل، بعد أن يستقر المشهد السياسي والميداني السوري، في الطريق لتحقيق سوريا الحُلم في مخيلة كل سوريّ.

سوريا وكوريا الجنوبية..كيف تكون سيرة الثانية عِبرة مفيدة للأولى؟ (2-3) 

ارتكزت كوريا الجنوبية على حليفها الأمريكي، واستندت إلى دعم المعسكر الغربي. خلال أربعة عقود، تضاعف الدخل .. المزيد


سوريا وكوريا الجنوبية...كيف تكون سيرة الثانية عِبرة مفيدة للأولى؟ (1-3) 

المعجزة الاقتصادية لكوريا الجنوبية كانت وليدة ثلاثية "الاحتلال الأجنبي، والحرب الأهلية، والحكم الديكتاتوري العسكري". . المزيد

ترك تعليق

التعليق