عقوبة المقامر 200 ليرة فقط...هل كان النظام السوري يتساهل في نشاطات القمار!

يجمع الباحثون وعلماء الاجتماع على أن "القمار" آفة خطرة تهدد آلاف الأسر في تماسكها، وتفتك بالبنيان الاجتماعي وتعمل على تمزيقه، وحين تتفاقم تصبح ناراً تأكل الأخضر واليابس، فهي تبدأ كتسلية بريئة أحياناً ولكنها تنتهي إلى الإدمان فالهلاك وربما الانتحار أيضاً.

كما يؤدي هذا الانحراف السلوكي إلى مشكلات نفسية وصحية واجتماعية ثقيلة، ومعاناة أسرية شديدة، يعاني فيها أطفال المقامرين من الإهمال، وتنتفي الثقة بين أفراد العائلة، ويرى علماء الاجتماع أن الهوس بالقمار ـ بمعناه النفسي المرضي- هو أحد أخطر عواقب الإدمان على اللعب والمراهنة واستمراء الربح والخسارة، إذ يؤدي بصاحبه إلى نهج سلوكيات فردية وجماعية شاذة إزاء نفسه وأسرته ومحيطه القريب، وترافق هذه السلوكيات الكثيرمن العادات المنحرفة، مثل الإدمان على شرب الخمر أو تعاطي المخدرات مما يزيد في تعميق الشروخ الاجتماعية الموجودة أصلاً في المجتمع. ويرى الدكتور "عدنان مسلم " المدرس في كلية علم الاجتماع بجامعة دمشق " أن الإدمان على القمار هو علة العلل وهو كالمرض الخبيث في الجسد إذا لم يُستأصل سيفتك بالجسد كله حتى الموت والقمار مثل أي مرض عقلي فضلاً عن كونه مرضاً نفسياً أثبت علماء النفس بالتجربة والاختبار أنه ألم نفساني حيث إن 75% من المصابين به ثبت بعد الفحوص أنهم يعانون من الكآبة التي تجعلهم مرشحين للانتحار".

باع زوجته
حين يذكر القمار تحضر مفردات مرادفة كالمخدرات وبيع الزوجات وجرائم القتل وفي هذا السياق لا يزال المجتمع السوري يتذكر قصة تلك السيدة التي حكمت عليها محكمة الجنايات بالسجن المؤبد مع الأشغال الشاقة بعد أن قتلت زوجها طعناً بالسكين لأنه باعها لأحد أصدقائه إثر خسارته في لعبة قمار على غرار ما كنا نرى في كلاسيكيات الأفلام الغربية وبعض الأفلام المصرية، كما نظمت شرطة سجن دمشق المركزي الضبط رقم 999 على أثر قيام أحد النزلاء بالاعتداء على نزيل آخر في الجناح ذاته بواسطة سكين أدخلها أحد أقربائه من خارج السجن، والسبب كما ورد في المحضر خلاف على لعبة قمار. وهذه العلاقة الوثيقة بين القمار والجريمة أكدتها العديد من الدراسات المختصة، إذ تشير إحدى هذه الدراسات إلى ازدياد معدل الجرائم بنسبة 10% في المناطق التي تكثر فيها قاعات القمارعن غيرها من المناطق، كما يزيد عدد حالات الإفلاس الشخصي بنسبة 18 إلى 42% ويتضاعف أيضاً عدد حالات الإدمان.

ورغم المحاذير يبقى الجدل دائراً حول شرعنة المقامرة وفتح كازينوهات مخصصة لها أو إبقائها في السر، وهنا نذكّر بـ"شرعنة" النظام السوري للقمار من خلال التغاضي عن نشاطاته المخملية والشوارعية مادام "حبل الوصال الرشوي" ممدوداً وهنا نذكر موافقة هذا النظام على افتتاح كازينو للقمار على طريق مطار دمشق الدولي شبيه بكازينو لبنان سيء السمعة ولكن هذا الكازينو الذي أُعتبر الأول من نوعه في قبل الثورة ما لبث إن أُغلق لأسباب مجهولة.

"السقط" و"الدومنجية"
لم يقتصر انتشار القمار على الصالات الفخمة أو الأندية أو الكازينوهات الفارهة والموائد الحمراء أو الخضراء، وإنما مورس في الشوارع الخلفية وفي الأزقة المهجورة وكانت شوارع المدن السورية ما قبل الثورة تعجّ بمثل هذه الممارسات المحرّمة التي تمثل عالماً سرياً بكل معنى الكلمة، وعندما كان المرء يمر في إحدى هذه المناطق لا بد أن يستلفت نظره أحد المقامرين الذي يسمى "السقيط" وهو يقوم بالتغرير بأحد المارة بعد أن يتفرس فيه ويتأكد من امتلاء جيوبه فيأتيه من شماله إذا كانت "الكشة" أداة النصب على يمين المار، أو من شماله إذا كانت على يساره إلى أن يصل بالفريسة إلى "الكشة" التي يلتف حولها ما بين خمسة وستة أفراد هم "الدومنجية" ويطلقون عليهم اسمين هما "القاشق" و "الأبيه" وعلى رأس هؤلاء الدومنجية يقف "المعلم" رئيس "الكشة" عندما يصل "السقيط" مستصحباً معه "الكبن" وهو المار الذي أوقعه سوء حظه بين أفراد العصابة يقف السقيط ويستوقف "الكبن" بحجة الاستطلاع على ما يجري، فيبدأ الدومنجية اللعب بالورقات الثلاث أو "الكشاتبين" فيضع أحدهم عشر ليرات وأحياناً مئة مبصرّاً على ورقة معينة أو "كشتبان" معين فيضع أحدهم "الزييح" بتبديل أماكنها بسرعة البصر فيربح "القاشق" أو "الأبيه" نفس المبلغ الذي قامر به وهنا يحاول "السقيط" التغرير بـ "الكبن" فيبصّر أمامه على إحدى الورقات أو أحد "الكشاتبين" فينبهه "الزييح" بقوله "همّل" - أي تمهل- أو يلغز بعبارة "سرقاف تراب" أي ضع أموالك على أحد الأطراف ولا تضعها في الوسط، فيضع أمواله على الورقة الرابحة أو "الكشتبان" الذي في جوفه الزهر فيربح ويلتفت إلى الفريسة مخاطباً إياه: يا عم لماذا لا تبصّر فالربح مضمون وها أنا قد ربحت!! فيعمد المسكين إلى مجاراته بهدف الربح، فيبصر على ورقة من الورقات الثلاث أو أحد "الكشاتبين"، فيخسر ما وضعه من أموال فإذا حاول المسكين أن يحتج عمدَ السقيط إلى استصحاب "الكبن" لإبعاده عن المكان محاولاً إقناعه بأن القمار كما التجارة فيه الربح والخسارة، أما إذا استعصي عليهم إبعاده انهال أفراد العصابة عليه بالضرب المبرح فيما يقوم أحد "البصّيصة" بمهمة مراقبة حركة الشارع والإبلاغ عن أية دورية تقترب من مكان المقامرة. وعندما يشعر بقدومها من بعيد يقول للمجموعة "درميل" ومعناها في عُرفهم "اهربوا" فيفرون !! وكثيراً ما تتخلل هذه المقامرات خلافات تحدث بين اللاعبين وأفراد العصابة تبدأ بالمناوشات الكلامية وقد تنتهي بالتشابك بالأيدي أحياناً.

سلوك شيطاني
البحث عن الثراء السريع الذي يحققه اللاعبون من وراء احتراف هذه السلوك هو أحد أسباب اتجاههم إلى ممارسة هذا السلوك وتزجية الوقت بالتسلية كما أفاد بعض ممن التقيناهم وفضلوا عدم ذكر أسمائهم خوفاً من الملاحقة الأمنية والقانونية، لكن هذه الرغبة كما قالوا تتحول بعد فترة إلى حالة من الندم والأسف وخصوصاً عندما يفقد المقامر منهم أي شعور بالانتماء الأسري والمجتمعي، ومشاكل المقامرين - كما يقول الدكتورمحمد الموسى الأستاذ في كلية التربية بحمص -لا تقل أهمية عن مدمني الخمر والمخدرات، حيث نجد أن هؤلاء الأشخاص يصبح لديهم رغبة كبيرة بممارسة هذا السلوك، ويلاحظ عليهم توتر شديد قبله وحالة ندم بعده جرّاء غياب القدرة على السيطرة على الدوافع أو الرغبة في ممارسة هذا السلوك الذي يقود إلى اضطراب شديد في سلوكية المقامر وعلاقته بأسرته وشؤونه العامة وقد يقوده هذا الفعل أحياناً إلى الدمار التام على كل المستويات الاجتماعية والعملية، وخصوصاً عندما يصل المقامر إلى مرحلة متقدمة من الإدمان لدرجة يراهن فيها على بيته أو زوجته وغالباً ما يكون لديه اضطرابات الشخصية المعادية للمجتمع.

عز الدين ع - 38 عاماً- أعمال حرة أحد ضحايا قمار الشوارع يقول: أدمنت القمار منذ عشر سنوات خسرت خلالها كل ما كنت أملكه، وفي يوم واحد خسرت أكثر من ربع مليون ليرة سورية وكنت دائم الانفعال والعصبية أضرب زوجتي وأولادي لأتفه الأسباب حتى ضقت ذرعاً بحياتي و فكرت بالانتحار أكثر من مرة ولكن الله هداني وتركت هذا السلوك الشيطاني والحمد لله.

و يقول علي .ي- تاجر: كنت أمر ذات يوم في أحد شوارع حمص القديمة فلفت نظري عدد من الشبان يتحلقون حول طاولة نصبها أحدهم، فاقتربت منهم لأرى ماذا يحصل وعندها راح أحدهم يدعوني لمشاركتهم لعب القمارو يغريني بالأموال التي سأجنيها، وهكذا وجدت نفسي متورطاً معهم لدرجة خسرت فيها نصف ما ادخرته من عملي في الخليج لكن أحمد الله أني صحوت أخيراً وإلا لكنت خسرت كل ما أملك.

أما " لينا- خ " فتقول: كان زوجي لا يأتي إلى المنزل إلا بعد منتصف الليل بحجة أنه يلعب الورق مع أصدقائه في المقهى أو في بيت أحدهم إلى أن بدأ هؤلاء يترددون إلى بيتنا المكون من غرفتين، يسهرون ويشربون ويلعبون "الشدة"، وكنت أسمع من الغرفة الأخرى صياحهم وشجارهم كل ليلة فتأكدت أنهم يلعبون القمار، فهددت زوجي بترك البيت والأولاد، ولكنه كان يقابل تهديداتي باستهزاء وسخرية قائلاً لي: "اذهبي إلى جهنم أنت وأولادك".. وقد تركت البيت أكثر من مرة ولكن والدي وأشقائي كانوا يعيدونني إليه مرغمة لأجل أبنائي الثلاث الصغار، وحاول أهلي وأهله إقناعه بالعدول عن هذا السلوك الشائن أكثر من مرة دون جدوى

.
عقوبات شكلية !

حول موقف القوانين والتشريعات السورية من ظاهرة القمار بمختلف أشكاله وأماكن ممارسته يقول المحامي الأستاذ خالد شاتيلا لـ "اقتصاد":
تنص المادة 618/ عقوبات على تجريم ألعاب القمار بكافة أنواعها, حيث جاء في الفقرة (1) من المادة المذكورة أن: (ألعاب القمار هي التي يتغلب فيها الحظ على المهارة أو الفطنة)، أما أنواع ألعاب القمار التي حظرها المشرع السوري, فقد أوردتها المادة (618) عقوبات في فقرتها الثانية: "تعد ألعاب المقامرة (الروليت والبكارا والفرعون والبتي شفو والبوكر المكشوف) وكذلك الألعاب التي تتفرع عنها أو تماثلها بصورة عامة". أما عقوبة من يفتتح محلاً لألعاب القمار –كما يقول شاتيلا- فقد حددتها المادة 619 "من تولى محلاً للمقامرة أو نظم ألعاب مقامرة ممنوعة في محل عام أو مباح للجمهور أو في منزل خاص, اتخذ لهذه الغاية والصرافون ومعاونوهم والمديرون والعمال والمستخدمون يعاقبون بالحبس من ثلاثة أشهر إلى سنتين وبالغرامة من مئة إلى ألف ليرة سورية، ويستهدف المجرمون بمنع الإقامة، وإذا كانوا غرباء استهدفوا الطرد من البلاد السورية" وكذلك المادة /620/ قالت: كل شخص اشترك باللعب في الأماكن المذكورة أعلاه أو فوجئ فيها أثناء اللعب يعاقب بغرامة من مائة إلى مائتي ليرة. فهل تكفي هذه العقوبات لردع "القمرجية" وهو الاسم الشعبي لممارسي القمار-عن هذه الممارسات الخاطئة والهدامة، وهل توقف الغرامة المالية الهزيلة هذه نزيف قدراتنا وتحدّ من الوقوع في غواية الربح والكسب المحرم السريع أم أنها لم تكن سوى عقوبات شكلية لتمرير فوائد مشتركة .

عين الحرام
وحول رأي الشرع الإسلامي بالقمار والمقامرة يقول الشيخ محمود الدالاتي إمام وخطيب جامع عمر بن الخطاب في حمص:
القمار أو الميسر محرّم في الإسلام لقوله عز وجل: يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون".

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من قال لصاحبه تعال أُقَامِرْكَ، فَلْيَتصَدّقْ" - متفق عليه- فإذا كان مجرد القول معصية موجبة للصدقة المكفرة فما ظنك بالفعل وهو داخل في أكل المال بالباطل.

وسبب تحريم القمار في التشريع الإسلامي -بحسب الشيخ الدالاتي- أنه أكل لأموال الناس بالباطل المنهي عنه في الآية السابقة، لذلك عُد الميسر أوالقمار من أكبر الكبائر، وقرنه الله عز وجل بالخمر والأنصاب والأزلام، والغاية من تحريمه أن الله تعالى يريد من المسلم أن يكسب معيشته بالطرق المشروعة كالبيع والشراء والفلاحة والصناعة وسائر الحرف والمهن.

والقمار من جانب آخر يجعل الإنسان يعتمد على الحظ والصدفة والأماني والأحلام الخادعة، دون الاعتماد على الله عز وجل والتوكل عليه في مباشرة الأعمال الدنيوية المشروعة، ثم إن الإسلام يعتبرالمال الحلال له حرمة لذلك لا يجوز أكله بالباطل، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه)، إلا عن طريق معاملة شرعية أو عن طيب نفس منه بهبة أو صدقة، أما أخذه منه غصباً عن طريق القمار مثلاً فهو هو عين الحرام.

ترك تعليق

التعليق