ماذا لو رُفع "دِثار" السرية المصرفية عن حسابات السوريين في العالم؟...لماذا وكيف يمكن تحقيق ذلك؟

هل أَذِن العصر الذي يمكن فيه أن نلاحق الحسابات المصرفية للصوص سوريا من حكام ومتنفّذين؟

قد تكون الإجابة، بـ "ليس بعد"، هي الأدق، لكن الاستفادة من تجارب الأمريكيين والأوروبيين في هذا المجال، قد تُمهد لتحقيق ذلك الهدف، مستقبلاً.

ففي أعقاب الأزمة المالية العالمية 2009، ضغطت الولايات المتحدة الأمريكية والدول الرئيسية في الاتحاد الأوروبي، على كلّ من سويسرا والنمسا واللوكسمبورغ، ودويلات أخرى أقل شأناً، بغية رفع غطاء "السرية المصرفية" عن حسابات مواطني أمريكا وأوروبا المُودعة في تلك الدول، بغية ملاحقة المتهربين ضريبياً.

وبعد لأيٍّ، خضعت الدول الثلاث، وإن بصورة تدريجية، وبشروط، للضغوط الغربية في هذا الصدد.

فها هي النمسا اليوم، بعد لوكسمبورغ بالأمس القريب، تعلن التخلي عن السرية المصرفية مطلع العام القادم، لتكون ثاني أبرز القلاع الخاصة بغسيل الأموال وكنزها، بعيداً عن الأضواء، التي تفتح أبوابها للتبادل التلقائي للمعلومات المصرفية بين بلدان الاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة الأمريكية.

ويتجه قطار الضغوط بخصوص مكافحة "التهرب الضريبي" حالياً صوب القلعة الأقوى عالمياً، في هذا الميدان، سويسرا، عاصمة أموال العالم، ومكمن مليارات، وربما تريليونات، مسجلة في حسابات رقمية دون أسماء، لرجال أعمال وزعماء مافيا وفاسدين وحكام من بلدان العالم الثالث.

على هذا الصعيد يبدو أن الحكام العرب وبطاناتهم تحديداً، من أبرز الخاسرين في حال الوصول إلى مرحلة نزع غطاء السرية عن الحسابات المصرفية، خاصة في سويسرا.

وإن كانت القضية اليوم محصورة في تبادل المعلومات المصرفية بين بلدان العالم الغربي بغرض مكافحة التهرب الضريبي، فإن النيل من مبدأ "السرية المصرفية" الذي ميّز الأداء المصرفي، طوال عقود، في سويسرا والنمسا واللوكسمبورغ، وبلدان وجزر صغيرة في أوروبا والبحر الكاريبي، سيكون الخطوة الأولى التي ستُتيح مستقبلاً، ربما، النيل من ثروات حكام وفاسدين هاربين أو معتقلين أو مطلوبين للعدالة الدولية أو الوطنية، خاصةً في بلدان "الربيع العربي".

وكلنا نذكر كم أُشيع عن حسابات مصرفية مهولة لحكام عرب في السنة الأولى من "الربيع العربي" 2011، ومن ثم طواها النسيان سريعاً، رغم ملاحقة بعض تلك الحسابات لفترة من جانب الحكومات الثورية التي سيطرت على الحكم حينها، قبل أن تنشغل بلدان "الربيع" باضطراباتها الداخلية.

بطبيعة الحال، يعتقد البعض أن هناك مبالغات في الأرقام الواردة بخصوص ثروات حكام العرب المجمدة كحسابات مصرفية في البنوك الغربية، خاصة في سويسرا، لكن إذا ذكرنا فقط أن رفعت الأسد، الذي غادر سوريا منذ قرابة ثلاثة عقود، وبحكم كونه شقيق حافظ الأسد، وأحد مراكز القوى في نخبته الحاكمة في الثمانينات، يمتلك اليوم ثروةً، الظاهر منها فقط، عدة قصور وشقق وفنادق في فرنسا واسبانيا.

جريدة "ليبراسيون" الفرنسية كشفت في شهر حزيران/يونيو الفائت أن قصر رفعت الذي يقع في 38 جادة فوش في باريس، والذي تقيم فيه إحدى نسائه الأربعة، معروض للبيع منذ 2009 مقابل 90 مليون يورو، وكادت عملية البيع أن تتم لولا أن السعر الذي عرضه المشترون الروس كان أقل من المطلوب (70 مليون يورو فقط).

وتفيد المعلومات المتوفرة أن رفعت سيعرض للبيع أيضاً 40 شقة في باريس، وينفي المقرّبون من رفعت نيته في بيع الشقق التي تُقدّر قيمتها بـ40 مليون يورو.

وتقدّر صحيفة لوموند اليومية الفرنسية الأصول العقارية الإجمالية لرفعت الأسد بنحو 160 مليون يورو (216 مليون دولار).

ويمتلك رفعت الأسد أصولاً وممتلكات تقدر قيمتها بالمليارات منها فندقي البلاتزا الفاخرين في كل من باريس في فرنسا وماربيلا في إسبانيا، كما يمتلك قناة "آ إن إن" التلفزيونية باللغة العربية.

وتشمل أملاك رفعت الأخرى في فرنسا منزلاً فخماً في "جادة لامبال" في باريس 16، وقصراً مع أملاك شاسعة يزعم أصدقاء رفعت أن الملك عبدالله بن عبدالعزيز أعطاه إياها قبل أكثر من 20 عاماً.

هذه ثروة رفعت الأسد الذي فقد مصدر نهبه لسوريا، نقصد منصبه، منذ ثلاثة عقود...فهل يمكن لنا أن نتصور كم تقدّر ثروات آل الأسد، بدءاً بنجلي حافظ، بشار وماهر، مروراً بأشقائه وأولاد أشقائه الموجودين في سوريا، دون أن ننسى أيقونة النخبة المافيوية الحاكمة في مجال المال، آل مخلوف، ومن ثم آل شاليش، وبطبيعة الحال، يجب أن نعرّج على ثروات بطانة آل الأسد والعائلات المتصاهرة معه، ونذكر في هذا المجال أن نجل محمود الزعبي، حسب ما أُشيع نهاية التسعينات، قبل أن يُنحر –الأب-، كان يمتلك منتجعاً في شرم الشيخ بمصر.

بكل الأحوال، تحدثت صحيفة "هافنغتون بوست" الأمريكية مؤخراً عن ثروة تقدّر بنصف مليار دولار، يمتلكها بشار الأسد وحده، وفق أرقام وإحصاءات نشرتها وكالة "بلومبرج" للبيانات المالية ومجلة "فوربس" الشهيرة، اللتان اعتمدتا على الممتلكات الموثقة للأسد، وحكام دول أخرى في العالم، وبمستندات ملكية معترف بها.

أي المعروف، كثروة غير سائلة لـ بشار الأسد، نصف مليار دولار، فكم المخفي كسيولة مالية في مصارف غربية وشرقية وعربية؟!

وهذا الكلام عن بشار الأسد وحده، فكم ثروة العائلة مُضافاً إليها العائلات المُتصاهرة معها، والداعمة لها؟!

بكل الأحوال، قد يشهد التاريخ في الوقت القريب كُشوفات مُذهلة بخصوص ثروات حكام العرب، في حال سارت قضية رفع غطاء السرية المصرفية قُدماً في بلدان الغرب، وخاصة في حال انتقلت عدواها المُلزمة قانونياً ومالياً واقتصادياً، إلى أسواق مصرفية أخرى، في العالم العربي، وفي روسيا ودول جنوب شرق آسيا.

فسويسرا، أيقونة السرية المصرفية العالمية، عاندت وكابرت لسنوات، قبل أن تنحني أمام ضرورات التخلص التدريجي من هذه الاستراتيجية المصرفية، التي أغنت سويسرا، لكنها أضرت بالكثير من دول العالم، بالمقابل. وإن كانت القضية بدأت من رغبة الأمريكيين والأوروبيين بملاحقة المتهربين الضريبيين في بلدانهم، والذين يهربون أموالهم إلى سويسرا، فإن المستقبل قد يلزم هذا البلد على الذهاب باتجاه رفع غطاء السرية المصرفية لأسباب أخرى، غير مكافحة التهرب الضريبي.

قد يتساءل أحدهم: ما الذي يجبر سويسرا على رفع غطاء السرية المصرفية عن حسابات حكام ومسؤولين فاسدين عرب، سابقين، في بلدان قامت فيها ثورات، ما دامت مستفيدة من دوران ثرواتهم في أقنية استثماراتها؟

الجواب: كما فعلت الولايات المتحدة الأمريكية التي هددت سويسرا بمنع مصارفها من الولوج إلى السوق الأمريكية نهائياً، وهي أكبر سوق مالية واستثمارية في العالم، فرضخت سويسرا، ورضيت برفع غطاء السرية المصرفية عن المودعين الأمريكيين في بنوكها، وهو أمر فعلته باقي دول الاتحاد الأوروبي أيضاً في مواجهة التعنت السويسري، فرضخت الأخيرة، بعد رضوخ صنوييها في هذا المجال، النمسا واللوكسمبورغ.

على السياق نفسه، يمكن منع المصارف السويسرية من الولوج إلى سوق الاستثمار في مرحلة إعادة الإعمار في سوريا، في حال رفضت الحكومة الفيدرالية السويسرية رفع غطاء السرية المصرفية عن السوريين المودعين في بنوكها.

وهو ما يمكن فعله في حالتي النمسا واللوكسمبورغ، وفي حال الكثير من البلدان الصغيرة والجزر التي تعتاش على غسيل الأموال عبر عناوين مصرفية وهمية. وهو ما يمكن فعله مع مصارف قبرص وروسيا وجنوب شرق آسيا، والعالم العربي، بحيث يتم كشف الغطاء عن ثروات السوريين المصرفية في معظم مصارف العالم، وملاحقة ثروات المسؤولين السابقين والفاسدين واللصوص منهم.
ويبقى أن النجاح في هكذا مسيرة، يتطلب مُثابرة ونخبة محنكة تستغل نقاط القوة الكامنة في أن أسواق الشرق الأوسط قد تكون في الفترات القادمة، من أكثر الأسواق جذباً للاستثمار، حالما تهدأ الاضطرابات، وتستقر الحكومات. وستكون سوريا ربما، أكثر تلك الأسواق جذباً، بحكم الدمار الكبير الذي لحق ببنيتها التحتية.

والسوريون يوم إعادة الإعمار سيكونون أحوج ما يكونون لسيولات مالية، تُغنيهم قدر المستطاع، عن القروض والهبات المُسيسة، المُرتقبة يومها من دول العالم. الأمر الذي يتطلب تفكيراً جدياً في هذه القضية، والتخطيط لها، منذ اليوم، خاصة إذا علمنا أن الضغوط الأوروبية والأمريكية على العمالقة الثلاثة في مجال السرية المصرفية، سويسرا والنمسا واللوكسمبورغ، لم تُؤتِ أُكلها إلا بعد خمس سنوات على الأقل.

ترك تعليق

التعليق