"اقتصاد" تفتح ملف "الفيدرالية" في سوريا...الحلقة الأخيرة: عِبَرُ نموذجي "اليمن" و"البوسنة" (7)

مع الاتجاه نحو خيار "الفيدرالية"، اقتتل اليمنيون، ومع إقرارها والاتجاه نحو "شياطين" تفاصيلها المتعلقة بحدود الأقاليم، من المرتقب أن يقتتل اليمنيون أيضاً.

تجربة "الفيدرالية" في البوسنة أدت إلى صعود نُخب لعبت على وتر القومية والدين في البدايات، فتصدرت المشهد السياسي.

"اتفاقية دايتون"، وبإقرار معظم الإعلام الغربي، أنتجت "دولة رخوة" أو "دولة فاشلة".

خيار "الفيدرالية" يؤدي إلى رفع وتيرة النزاعات المحلية، ويدفع بعض المجموعات للقيام بعمليات تطهير عرقية لتحقيق أغلبيات في مناطق معينة.

رغم تعقيد الخيارات البديلة، فهي تبقى أقل تعزيزاً للنزعات الانفصالية والمناطقية، كخيار "اللامركزية الإدارية الموسعة" التي يمكن أن تُوسم بشيء من اللامركزية السياسية المحددة.

 

بعد انقطاعٍ طويلٍ نسبياً، دام لأسابيع، تريثنا خلاله في إعداد الحلقة الأخيرة من سلسلتنا حول ملف "الفيدرالية" في سوريا. جاءت الخاتمة موشّاةً بتجربتين معاصرتين، إحداهما في طور التأسيس "اليمن"، والأخرى في طور الانهيار "البوسنة"، لتخلص باتجاه ترجيح سلبيات "الفيدرالية" على إيجابياتها.

فهذا السيناريو، "الفيدرالية"، كخاتمة، قد يُشبع تطلعات أطياف السوريين العِرقية والمذهبية والمناطقية، لفترة من الزمن. لكنه، على الأرجح، لن يحقق تطلعاتهم الاقتصادية –المعيشية، أو السياسية. وبناءً على ذلك يبدو أن خيارات ما فوق "الفيدرالية" من قبيل "اللامركزية الموسعة"، تبقى الأنسب لتأسيس سوريا قادرة على تلبية مختلف تطلعات السوريين، دون تطييفهم أو "عرقنتهم".

وهكذا بعد سلسلة دامت ست حلقات، خلصنا في حلقتنا الأخيرة، السابعة، إلى الدعوة للعمل على اجتناب "الفيدرالية"، قدر المستطاع، كي لا نفتح باب شياطين التفاصيل، خاصةً مع تعقيدات الجغرافيا والديمغرافيا السورية، مما يرجح أننا لن نكون أفضل حظاً من حالتي "اليمن"، و"البوسنة".

"اليمن"...الترويج للـ "الفيدرالية" يؤدي إلى اقتتال اليمنيين...وإقرارها يفتح الأفق أمام اقتتال جديد

لنبدأ بالتجربة اليمنية المُعاشة حالياً، وهي نموذج حيّ يمكن ترقبه اليوم لحالة دولة مركزية شمولية تحاول الانتقال إلى "الفيدرالية"، بعد ثورة شعبية أطاحت بالكثير من مرتكزات قوة نظامها الحاكم.

فمنذ أن اتضح أن مؤتمر الحوار الوطني اليمني في طريقه إلى إقرار "الفيدرالية" كشكل للدولة اليمنية المُستقبلية، تصاعدت الصراعات المسلحة بين الحوثيين وخصومهم من آل الأحمر وحاشد والسلفيين والإخوان المسلمين وقبائل شمال اليمن، في حرب شعواء، أجمع المراقبون على أن غايتها الأساسية سعي كل طرف لفرض أمر واقع بخصوص حدود الولايات والأقاليم التي سيسيطر عليها في إطار "الدولة الفيدرالية".

ومع رغبة الحوثيين الشديدة في الحصول على منفذ بحري للإقليم الذي يضم محافظة صعدة، شمال اليمن، حيث معقلهم الرئيسي، اشتبكوا مع خصومهم من سكان المنطقة ذاتها من القبائل والفرقاء سابقي الذكر آنفاً. وهكذا كان مجرد الترويج لخيار "الفيدرالية" سبباً للمزيد من التفتت والاقتتال بين اليمنيين.

ورغم أن مؤتمر الحوار الوطني اليمني، الذي أقرّ أخيراً خيار "الفيدرالية" بالفعل، لم يمنح الحوثيين أملهم في المنفذ البحري، إلا أنه ترك ثغرة خطرة، يرتقب الجميع أن يتجدد القتال بسببها، وهي رسم حدود الأقاليم أو الولايات المكوّنة للدولة الفيدرالية. إذ من المرتقب أن يسعى كل فريق في اليمن للسيطرة على أكبر مساحة ممكنة من الجغرافيا الثرية بالموارد والمنافذ الاستراتيجية.

خلاصة التجربة اليمنية، أنه مع الاتجاه نحو خيار "الفيدرالية"، اقتتل اليمنيون، ومع إقرارها والاتجاه نحو "شياطين" تفاصيلها المتعلقة بحدود الأقاليم، من المرتقب أن يقتتل اليمنيون أيضاً.

ما سبق يعني أن خيار "الفيدرالية" لم يخدم تطلعات اليمنيين نحو تأسيس دولة مستقرة تلبي تطلعات جميع أبنائها، كما أُشيع من جانب مناصري ذلك الخيار. حتى الآن، على الأقل.

وما تزال الكثير من "الشياطين" تنتظر اليمنيين في تفاصيل "الفيدرالية" المتعلقة بتوزيع الثروات ودور حكومات الأقاليم في تمويل الميزانية المركزية للعاصمة صنعاء، ودور تلك الأخيرة في تمويل الأقاليم الأكثر فقراً، من "جيبة" الأقاليم الأكثر ثراءً.

"غرب البوسنة"...فيدرالية العقد الماضي تخلص إلى دولة "فاشلة" مؤهلة للانهيار والتقسيم

وكما أن النموذج "الفيدرالي" اليمني، الذي هو في طور التأسيس، لا يُبشّر بالخير مبدئياً، فإن نموذجاً فيدرالياً آخر، نشأ إثر حرب شعواء من نظام مستبد ضد مكونات محددة من شعبه، مضى على تأسيسه أكثر من عقد من الزمان، لا يُبشّر هو الآخر بالخير. ونقصد هنا نموذج فيدرالية "غرب البوسنة" الناشئة إثر "اتفاق دايتون" التاريخي.

فبعد حرب شعواء شنها نظام "سلوبودان ميلوشوفيتش" في يوغسلافيا سابقاً، على المسلمين، تفككت الدولة اليوغسلافية، وبعد حرب أهلية طاحنة بين الصرب والكروات والمسلمين في البوسنة، تدخل الغرب، لـ"إنقاذ" المسلمين من المجازر التي ألحقها مسيحيو الصرب بهم، وأجبروا جميع الأطراف على القبول بتسوية إقليمية –دولية تمثلت في "اتفاقية دايتون" 1995، قُسمت بموجبها البوسنة إلى "جمهورية الصرب" التي تضم 49% من أراضي البوسنة، وإلى "الفيديرالية المسلمة الكرواتية" التي تضم 51%، الأخيرة قُسّمت أيضاً، بدورها، إلى كانتونات وحكومات محلية تُرضي الطرف الكرواتي الذي يمثل أقل من 20%، ووُضعت رئاسة ثلاثية (مسلم وصربي وكرواتي) تتخذ فيها القرارات السيادية بالاجماع.

وفي تحقيق صحفي أجرته صحيفة الحياة اللندنية مطلع الشهر الفائت، يتضح أن "اتفاقية دايتون"، وبإقرار معظم الإعلام الغربي، أنتجت "دولة رخوة" أو "دولة فاشلة". فقد نصت الاتفاقية على عودة "المهجّرين" إلى بيوتهم وأملاكهم، لكن غالبية المهجّرين من المسلمين لم يعودوا حتى الآن إلى بيوتهم وأملاكهم في "جمهورية الصرب" وبقوا يشكلون عبئاً على "الفيديرالية المسلمة الكرواتية" التي أصبحت تنوء تحت عبء نفقات الحكومات المحلية وفسادها. ومن ناحية أخرى فقد سمحت "اتفاقية دايتون" للصرب والكروات بعلاقة خاصة مع صربيا وكرواتيا اللتين تساعدان الصرب والكروات في البوسنة بوسائل متعددة بينما يُحسب المسلمون على العالم الإسلامي ولا تُقدم المساعدات لهم إلا بالقطارة. والأكثر من ذلك أن رئيس "جمهورية الصرب" ميلوراد دوديك قد أقلع عن إعلان استقلال "جمهورية الصرب" وانضمامها إلى صربيا المجاورة تحت تهديد الاتحاد الأوروبي، ولكنه صرح مراراً وتكراراً بأن ذلك سيتحقق من تلقاء ذاته عندما تفشل البوسنة كدولة وتنهار على رغم دعم الاتحاد الأوروبي لها، ولذلك يأمل أن تكون الاحتجاجات الشعبية المتصاعدة هناك حالياً، هي البداية. و"هنأ" شعبه في "جمهورية الصرب" على عدم الانجرار إلى ما يجري في "الفيديرالية المسلمة الكرواتية".

الفيدرالية الأخيرة، فشلت فشلاً ذريعاً في القيام بواجباتها، فالقيادات القومية والدينية التي صعدت إلى سدة الحكم بناء على خطابات سياسية شوفينية ودينية إبان الصراع المسلح بين مكونات يوغسلافيا السابقة، تحولت إلى نخب فاسدة للغاية، فتحولت البوسنة إلى أعلى مستويات البطالة في أوروبا، وإلى فوارق اجتماعية صارخة، وفساد حكومي هائل، وتنامي كبير لثروات المافيات المختلفة.

الخلاصة أن تجربة "الفيدرالية" في البوسنة أدت إلى صعود نُخب لعبت على وتر القومية والدين في البدايات، فتصدرت المشهد السياسي، وعزفت على أوتار عواطف أطياف البوسنيين من مسلمين وكروات وصرب، ومن ثم تحولت تدريجياً إلى نخب فاسدة، أنتجت دولة "رخوة"، مؤهلة للانهيار حالياً بفعل احتجاجات شعبية متصاعدة نتيجة الأوضاع المعيشية المزرية.

ولم يقف الأمر عند ذلك، بل ها هي بعض هذه النُخب تعزف على الوتر القومي للانتقال من "الفيدرالية" إلى التقسيم النهائي للبلاد.

تجربتا "اليمن" و"البوسنة" تُثبتا صوابية آراء معارضي "الفيدرالية"

لو راجعنا الحلقة الثانية من سلسلتنا، والتي عرضت آراء معارضي خيار "الفيدرالية"، نجد أن تجربة "اليمن" حالياً تُثبت صوابية رأي من تحدث عن أن خيار "الفيدرالية" يؤدي إلى رفع وتيرة النزاعات المحلية، ويدفع بعض المجموعات للقيام بعمليات تطهير عرقية لتحقيق أغلبيات في مناطق معينة، مما يولّد ردات فعل مماثلة، وقد يؤدي لخسارة بعض المجموعات لأراض تحقق فيها الأغلبية ولكنها معزولة عن مناطق تواجدها الرئيسية.

ونجد أن حصيلة تجربة "الفيدرالية" في غرب البوسنة اليوم تُثبت أيضاً صوابية رأي من تحدث عن أن "الفيدرالية" تُنتج دولة "رخوة" مفككة غير قادرة على تأمين أي خدمات أو رفاه اقتصادي لمواطنيها.

وتُثبت تجربة غرب البوسنة أيضاً بأن "الفيدرالية" إذا طُبقت في إطار دولة واحدة ومجتمع واحد، كانت عامل تجزئة وتفكيك، وأنها تؤدي إلى نفس مشكلات خيار "التقسيم". بل هي قد تؤدي بالفعل إلى "التقسيم" في نهاية المطاف.

هل من نُخب قادرة على قيادة "سوريا فيدرالية"؟!

أما بالنسبة للقائلين بإيجابيات "الفيدرالية" من أنها تشكّل حلاً لبعض المشكلات المرتبطة بوجود أعراق وقوميات وطوائف متباينة الأهداف والمصالح داخل الدولة الواحدة. ومن أنها تؤمن أساس لتوافق وطني على شكل الدولة يحظى بتأييد شعبي. ناهيك عن حديث بعض الخبراء عن استحالة إعادة إنتاج نظام الدولة المركزية الشمولي.....فإن كل تلك الآراء السابقة، على صحة جوانب منها، تفترض وجود نخبة متماسكة في المركز – العاصمة، قادرة على إدارة خلافات الأقاليم وحكوماتها، وقادرة على جذب كل الأفرقاء الداخليين لتتمحور علاقاتهم التحالفية حول العاصمة، دون أية ارتباطات خارجية، وقادرة على التأسيس لنموذج ناجح اقتصادياً وسياسياً وأمنياً، يجذب أطياف الشعب داخل الدولة "الفيدرالية" للتمسك بالحكومة المركزية. وهي نماذج لنخب لم نرَها إلا في الدول الغربية المتقدمة، مع استثناءات في بلدان العالم الثالث، التي تؤدي معظم تجارب "الفيدرالية" فيها إلى الاضطراب والانهيار أو الفشل في نهاية المطاف.

وهنا نتساءل: إلى ماذا سيؤدي خيار "الفيدرالية" في بلدٍ كسوريا، قد يخرج شعبه قريباً من حرب طاحنة بين بعض مكوناته، مع تصاعد للحساسيات الطائفية والعرقية والمناطقية، وصعود لنخب محلية وعرقية ذات نزعات انفصالية أو ذاتية الحكم في أحسن الأحوال؟

ناهيك عن طبيعة بعض مكونات الجغرافيا والديمغرافيا السورية التي تزيد التعقيد، إذ تتوافر ثروات ضخمة في مناطق هي موضع جدل حول الأغلبية العددية فيها، كما في حال محافظة الحسكة والساحل السوري.

خاتمة...الخيارات الأخرى على تعقيداتها، أقل تكلفة

وهكذا يبدو أخيراً أن خيار "الفيدرالية" لن يكون المنحى الأمثل لتأسيس دولة مستقرة قادرة على تحقيق تطلعات شعبها في الحرية والرفاه والأمن.

ورغم تعقيد الخيارات البديلة، فهي تبقى أقل تعزيزاً للنزعات الانفصالية والمناطقية، كخيار "اللامركزية الإدارية الموسعة" التي يمكن أن تُوسم بشيء من اللامركزية السياسية المحددة، كما سبق وأوضحنا في حلقات سابقة.


في نهاية المطاف، يبقى أن "اقتصاد" كموقع اقتصادي وكادر عامل فيه، سوريّ الانتماء والهوى، يأمل لهذا البلد أن يحقق تطلعات أبنائه المنشودة، بكل أطيافهم، على اختلاف تطلعاتهم، عبر الوصول إلى قواسم مشتركة، وحلول وسط، تعزز من إمكانيات الوحدة، بدلاً من الفُرقة، واستعادة التعايش، مع مراعاة المظلومية التاريخية الواقعة على الكثير من أبنائه، بصورة تحفظ له صورته النقية كوطن للجميع، غير قابل للقسمة نهائياً.

 

الحلقات الستة السابقة من السلسلة... بالترتيب:

"اقتصاد" تفتح ملف "الفيدرالية" في سوريا.. الاقتصاد عامل أساسي في إسقاط خيار "التقسيم" (1)

"اقتصاد" تفتح ملف "الفيدرالية" في سوريا...آراء معارضي خيار "الفيدرالية" (2)

"اقتصاد" تفتح ملف "الفيدرالية" في سوريا...آراء مؤيدي خيار "الفيدرالية" (3)

"اقتصاد" تفتح ملف "الفيدرالية" في سوريا...قارصلي يحذّر ويدعو إلى "اللامركزية" (4)

"اقتصاد" تفتح ملف "الفيدرالية" في سوريا..."الجمهورية السورية الثالثة" (5)

"اقتصاد" تفتح ملف "الفيدرالية" في سوريا...تشريح السيناريوهات المُحتملة (6)

 

ترك تعليق

التعليق