مقتل المصلحة الاقتصادية الروسية في خسارة إيران وسوريا وليس في أوكرانيا (1-2)

يمكن اختصار فكرة المقال، بجزئيه، في الخلاصة الآتية، وهي أنّ: خسارة النفوذ الروسي في إيران وسوريا أكثر خطورة على مصالح روسيا الاقتصادية بعيدة المدى، من خسارة نفوذها فيما بقي من أوكرانيا، بعد اقتطاع القرم منها.

قد يستنكر بعض المراقبين تلك الخلاصة، خاصةً وأن أوكرانيا في عُرف الاستراتيجيين خاصرة روسيا الرخوة، وبوابة الدخول الأوروبي إلى حصن الدب الروسي المنيع، حتى الآن.

لكن الحسابات الدقيقة، بلغة الأرقام والمصالح الاقتصادية، تكشف لنا أن أخطر ما يعني روسيا في أوكرانيا، هي شبه جزيرة القرم، التي استخدمت فيها موسكو القوة الخشنة لإحكام السيطرة عليها. والآن يمكن لصانع القرار الروسي أن يتحرك بهدوء، دون ضغوط عاجلة، باستخدام قوة روسيا الناعمة، لإعادة أوكرانيا إلى "الحظيرة" الروسية، عبر افتعال أزمات داخلية سياسية واقتصادية ومجتمعية قادرة على أن تُحيل حياة الأوكرانيين إلى جحيم، يلعنون معه "الساعة" التي اندلعت فيها ثورتهم.

وبهذا الصدد، كان بعض المراقبين قد نبّهوا منذ الأيام الأولى لاندلاع الحراك الشعبي الأوكراني المناوئ لحكومة فيكتور يونوكوفيتش، إلى أن هذا البلد مرتبط "شريانياً" بالجار الروسي. فغازه روسي، وتجارته روسية، والأهم أن تركز الصناعات الحيوية والثروات الطبيعية تقع في أقاليم شرقية وجنوبية، روسية الهوى والانتماء في غالبية سكانها.

لروسيا نفوذ مجتمعي حاسم في شرق البلاد وجنوبها، مما يجعل لديها القدرة على تعكير صفو أية سلطة مناوئة لها ستحكم من كييف. وبعد اقتطاع منطقة القرم من أوكرانيا، تخلص الكرملين من هواجس ضغط كييف عليه عبر تعطيل اتفاقية استخدام المنشآت البحرية في تلك المنطقة لصالح أسطول روسيا البحري، وهي القضية الأكثر خطورة التي كان من الممكن للسلطة الجديدة في أوكرانيا أن تستخدمها للضغط على صانع القرار الروسي.

إضافة إلى ما سبق، روسيا كانت تبيع الغاز بسعر مخفّض لأوكرانيا مقابل استئجار موانئ القرم لأسطولها البحري. أما اليوم، بعد سيطرة موسكو على القرم، لن تبقى الأخيرة مُلزمة بإمداد أوكرانيا بغاز مخفّض السعر. وهنا نذكر أن أوكرانيا تعتمد اعتمادا كليا على الغاز الآتي من روسيا في تشغيل المصانع والتدفئة، في بلدٍ يستهلك الطاقة بنسب كبيرة عالمياً، مع انعدام مصادر بديلة عاجلة للحصول على غاز بتكلفة منخفضة.

يمكن أن نزيد فيما سبق أن عروض المساعدة العاجلة الأوروبية التي وصلت أمس إلى 11 مليار يورو، إلى جانب 3 مليار دولار من صندوق النقد الدولي بدعم أمريكي، لن تكون كافية لانتشال البلاد من أزمتها الاقتصادية التي كانت السبب العميق وراء اندلاع الحراك الشعبي المناوئ لحليف موسكو في كييف.

فأوكرانيا، حسب وزير المالية الأوكراني في الحكومة الجديدة تحتاج إلى 35 مليار دولار لإنقاذها من الإفلاس.

بالمقابل، كانت روسيا عرضت على أوكرانيا، قبيل الإطاحة بـ يونوكوفيتش، استثمارات تصل إلى 15 مليار دولار في سندات حكومية أوكرانية، استهلكت منها أوكرانيا بالفعل 3 مليارات دولار خلال أسابيع معدودة فقط. ناهيك عن عرض بوتين بتخفيض سعر الغاز المصدّر إلى كييف بمقدار الثلث، حينها.

أمام كل ما ذكرناه آنفاً، لا يبدو أن روسيا ستخرج خاسرة في حال حكمت سلطة مناوئة لها في كييف. فهي قادرة على إفشال أية مساعٍ تقوم بها هذه السلطة لانتشال البلاد من أزمتها الاقتصادية. بل هي قادرة أيضا على إغراقها بالمزيد من الأزمات السياسية والمجتمعية عبر تحريك المجاميع السياسية الموالية لها في شرق البلاد.

يمكن لمراقبين كُثر أن يعترضوا على ما سبق من كلامنا، إذ من المعروف أن 80% من الغاز الروسي الطبيعي المُباع لأوروبا، يمرّ عبر الأراضي الأوكرانية، تحديداً عبر شمالها الغربي، مما يجعله يقع في مناطق ذات غالبية قومية أوكرانية كاثوليكية مناوئة للروس وميالة لأوروبا.

الحيثية الأخيرة هي التي راهن عليها الكثير من المراقبين في تقدير أن روسيا ستندفع لفعل أي شيء كي لا تخسر أوكرانيا، لكن هذه القراءة تفتقد نسبياً إلى الكثير من التفاصيل المكمّلة التي تغير نتيجتها كلياً.

التفصيل الأول أن لروسيا خطين بديلين لتمرير الغاز إلى أوروبا، الأول يمر عبر بولندا، والثاني تحت بحر البلطيق، من شمال غرب روسيا إلى ألمانيا.

التفصيل الثاني أن إيقاف أوكرانيا لخط الغاز الروسي المار من أراضيها، يعني فعلياً أنها تحرم نفسها من الغاز الذي يمد صناعتها بالحياة، ويدفئ سكانها.

يمكن لأوكرانيا تدريجياً، أن تجد بدائل للغاز الروسي، ربما عير استيراد الغاز السائل من قطر أو من الجزائر، لكن هذا البديل صعب نسبياً لأن أوكرانيا لا تملك إطلالة بحرية إلا على شمال البحر الأسود، حيث تسيطر البحرية الروسية على الملاحة، مما يعني أن الأخيرة قادرة، لو أرادت، على عرقلة أي تحولات من هذا القبيل. ناهيك عن أن هذا التحول في تأمين مصادر الطاقة في أوكرانيا لا يمكن أن يتم بصورة عاجلة، لأن البنى التحتية الصناعية وبنى التدفئة الأوكرانية تعتمد على خطوط الغاز المتفرعة من الخط الرئيس الآتي من روسيا.

بالمقابل، يمكن لروسيا أن تستغني قريباً عن خط الغاز العابر عبر الأراضي الأوكرانية حينما ينتهي العمل بـ"الخط الجنوبي" لنقل الغاز، والمار تحت البحر الأسود إلى بلغاريا. ومن المتوقع أن يدخل هذا الخط حيز العمل الفعلي العام القادم. وهكذا يمكن لروسيا أن تسبق كييف، في الاستغناء عن تمرير غازها عبر الأراضي الأوكرانية، قبل أن تتمكن الأخيرة من التخلص من حاجتها الملحة للغاز الروسي.

خلاصة القول إن الحديث عن تهديد جدّي بعيد المدى لمصالح روسيا الاقتصادية في أوكرانيا، في غير محلّه. ربما يكون التهديد استراتيجيا، أو ثقافيا، أو سياسيا، لكن روسيا، عبر القوة الناعمة، والضغوط الاقتصادية، وتحريك مواليها من الداخل، قادرة، على الأغلب، في ثني أية سلطة كانت في كييف، عن تهديد الأمن القومي الروسي بصورة جديّة.

لكن على المقلب الآخر، يبدو أن فقدان روسيا لنفوذها في إيران أو سوريا، سيضرّ بالأولى، على المدى البعيد، بصورة تفوق كثيراً ذلك الضرر الاقتصادي الآتي من فقدان السيطرة المطلقة على أوكرانيا.


يتبع في الجزء الثاني...

ترك تعليق

التعليق