مقتل المصلحة الاقتصادية الروسية في خسارة إيران وسوريا وليس في أوكرانيا (2-2)

روسيا شنت ضربات استباقية ضد خط "نابكو" للغاز.

تقرير رسمي أمريكي أوصى بالسماح باستيراد الدول الأوروبية للغاز الإيراني.

لا بد أن الإيرانيين يعلمون جيداً بأن مصلحتهم الاقتصادية بعيدة المدى تتمثّل في بيع غازهم للأوروبيين.

روسيا تسعى لشراء الوقت بغية تأجيل وصول الغاز القطري أو الإيراني إلى أوروبا، عبر إطالة أمد الأزمة السورية، وتعزيز نقاط الخلاف الغربي –الإيراني.

الولايات المتحدة الأمريكية، أميل للخيار الأسهل، وهو الوصول إلى تسوية مع إيران.


يُجمع الخبراء على أن الغاز الطبيعي سيكون وقود المستقبل. فهو أرخص وأكثر وفرة، وأكثر تماشياً مع المصالح البيئية، مقارنةً بنظيره النفط.

ومع توجّه أوروبا التدريجي نحو الاستغناء عن الطاقة الناتجة عن المفاعلات النووية، ستزداد أهمية الغاز وقيمته الحيوية في تحريك العديد من الاقتصاديات العالمية، وفي مقدمتها، اقتصاد الاتحاد الأوروبي، ثاني أكبر سوق للغاز في العالم.

وبما أن روسيا تعتمد اقتصادياً بصورة رئيسية على بيع إنتاجها من الغاز تحديداً لأوروبا، ويتيح لها ذلك التأثير في الكثير من القرارات الاستراتيجية الأوروبية، يشكّل فقدان هذه الميزة كابوساً لصانع القرار الروسي، فأوروبا تستورد 40% من حاجتها من الغاز من روسيا.

قصّة خط "نابكو" الشهير...والعين على الغاز الإيراني

تملك روسيا أكبر مخزون من الغاز في العالم، تليها إيران، ومن ثم قطر، إلى جانب مخزونات كبيرة منه في دول آسيا الوسطى. وقد شهد العقد الماضي تحديداً العديد من المخططات الغربية لاستقدام الغاز من قطر وآسيا الوسطى إلى أوروبا.

أبرز تلك المخططات كان خط "نابكو" الشهير الذي تم التفكير فيه منذ مطلع القرن الحالي، وكان المخطط أن يُنقل الغاز عبر هذا الخط من دول آسيا الوسطى، عبر تركيا إلى أوروبا، مما يشكّل ضربة قاصمة لتحكم روسيا بمصدر الطاقة الأوروبي الرئيسي.

لكن روسيا شنت ضربات استباقية ضد هذا الخط، قبل أن يتم العمل عليه فعلياً، فدخلت في عقود شراء غاز طويلة المدى مع كل حكومات الدول التي من المفترض أن تضخ الغاز في خط أنابيب نابكو، مستغلةً نفوذها السياسي في تلك الدول. تركمانستان وأوزبكستان وأذربيجان، جميعها وقعت اتفاقيات احتكار واستثمار لاحتياطياتها الغازية الضخمة مع روسيا، ولآجال بعيدة المدى زمنياً. وهكذا بقي خط أنابيب نابكو بلا مصدر مموّل بالغاز.

في كانون الأول 2012، عُرض على لجنة الشؤون الخارجية بمجلس الشيوخ الأمريكي تقرير يتعلق بالأبعاد الاستراتيجية لتحكم روسيا بمصدر الغاز المُباع لأوروبا. وخلص التقرير حينها إلى أن عدم وجود ممرّ جنوبي للغاز إلى أوروبا من وسط آسيا، يشكّل تهديداً للأمن القومي الأميركي وللعلاقة مع أعضاء حلف شمال الأطلسي الأوروبيين. وذهب إلى حدّ التوصية بوضع استثناءات في العقوبات المفروضة على إيران، والسماح باستيراد الدول الأوروبية للغاز الإيراني. وأُدرج موضوع الغاز حينها تحت خانة تخفيف العقوبات مقابل تخلي إيران عن تخصيب اليورانيوم. وهو ما تم التمهيد له بعد عام تقريباً، في اتفاق جنيف النووي، بين إيران ودول "5+1"، في مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية الثلاث، فرنسا وبريطانيا وألمانيا.

غاز إيران وقطر...بديلاً عن الغاز الروسي

وفي عام 2012 أيضاً، وقّعت إيران وسوريا والعراق مذكرة تفاهم تقضي بمد أنبوب لنقل الغاز من إيران إلى موانئ سوريا على المتوسط. لكن العقوبات الغربية التي ما تزال مفروضة على إيران، والأزمة الراهنة في سوريا، تُعيقان تنفيذ المشروع.

قطر بدورها كانت قد حاولت عام 2009 تنفيذ مشروع لمدّ خط غاز برّي، عبر سوريا إلى تركيا، مروراً بالسعودية والأردن، لكن نظام الأسد تلكّأ في التجاوب مع المشروع خشية إغضاب حليفيه الروسي والإيراني، خاصة أن الاستقرار الذي كان ينشده في علاقاته مع الغرب، لم يكن قد وصل بعد إلى المستوى المطلوب. وكان ذلك قبل أن تندلع الثورة السورية.

اتفاق جنيف النووي وجوهره المرتبط بالغاز

اليوم، تظهر مشاهد جديدة في الاستراتجية الغربية للتخفيف من سطوة روسيا على سوق الغاز ونقله في العالم، ويبدو أن اتفاق جنيف النووي مع إيران أبرز انعطافات تلك الاستراتيجية.

بعيداً عن الأضواء، لا يمكن أن تكون روسيا راضية عن أي تفاهم إيراني –غربي يتم بمعزل عنها. فإيران قادرة على أن تكون المموّل المنشود لخط نابكو الاستراتيجي، بما تملكه من احتياطيات ضخمة من الغاز، وهي إحدى الحيثيات التي تفسّر التقرّب التركي الأخير من طهران، تماشياً مع مسعى غربي يتلمّس إمكانية التصالح مع العاصمة الإيرانية في إطار صفقة شاملة، تُغلق الملف النووي الإيراني، لصالح دخول إيران كشريك رئيسي في تمويل الغاز الواصل إلى أوروبا، عبر تركيا، مما سيمثّل خسارة هائلة لروسيا.

وإن شمل التفاهم الإيراني –الغربي تطبيع الأوضاع في سوريا، بمعزل عن الروس، يمكن للغاز الإيراني أن يصل إلى أوروبا أيضاً عبر الخط المُزمع إنشاؤه عبر العراق وسوريا إلى المتوسط. ويمكن أيضاً تنفيذ مشروع نقل الغاز القطري إلى الشواطئ السورية. فتكون أوروبا بذلك استغنت تماماً عن حاجتها للغاز الروسي.

ترجيح التفاهم الإيراني –الغربي

روسيا التي سبق أن أذلّت الأوروبيين حين قطعت، في شتاء 2009، ولمدة أسبوعين، إمدادات الغاز إلى أوروبا عبر أوكرانيا، مما جعل بعض دول الاتحاد الأوروبي تواجه مدناً ومنازل متجمدة لا تحظى بإمدادات غاز كافية للتدفئة...قد تفقد اليوم هذه الميزة، ميزة الضغط على أوروبا، إذا خسرت تحالفها مع إيران، ونفوذها في سوريا.

لا بد أن الإيرانيين يعلمون ذلك جيداً، ولا بد أنهم سعداء بالتلاعب على "الحبلين"، الغربي والروسي، عبر التلويح بإمكانية التفاهم مع أحدهما على حساب الآخر. لكن الإيرانيين أيضاً، لا بد أنهم يعلمون جيداً بأن مصلحتهم الاقتصادية بعيدة المدى تتمثّل في بيع غازهم للأوروبيين، وهو ما يظهر في مساعيهم لمدّ الغاز عبر حلفائهم في العراق وسوريا إلى المتوسط. مما يعني بأن التفاهم الإيراني –الغربي مُرجّح، لحاجة كلا الطرفين للآخر.

أمريكا لا تريد الصدام مع إيران...وروسيا تريد إطالة أمدّ الأزمة السورية

بناءً على القراءة الأخيرة، يفسّر بعض المراقبين الحذر الأمريكي في التعامل مع إيران، ومع نظام الأسد، فهم يريدون التفاهم مع طهران فعلياً، ولا يريدون الصدام الكامل، خاصة أن إسقاط نظام الأسد لا يقدّم لهم بديلاً آمناً سياسياً، يمكن الاعتماد عليه في تنفيذ مشروع مدّ الغاز القطري إلى تركيا، حتى الآن.

وبناءً على القراءة ذاتها، يعتقد مراقبون بأن روسيا تسعى لشراء الوقت بغية تأجيل وصول الغاز القطري أو الإيراني إلى أوروبا، عبر إطالة أمد الأزمة السورية، وتعزيز نقاط الخلاف الغربي –الإيراني.

الإطاحة الكاملة بالأسد، لو توفّر البديل، الخيار الأمثل للغرب

قبل أن نختم، نلفت إلى وجود حيثية دقيقة، لا بد أن الغرب يضعها في اعتباره، أن التفاهم مع إيران على قاعدة سيطرة الأخيرة على سوريا، ليس من صالح الغرب، نظراً لأن ذلك يعني أنهم سيتخلصون من الاحتكار الروسي لمعظم الغاز المُباع إلى أوروبا، ليستبدلوه باحتكار إيراني بديل. وأن الحل الأمثل المُتاح في نظر الغرب هو تقاسم النفوذ في سوريا، مع إيران، عبر نظام سياسي يضم المعارضة ونظام الأسد معاً، بما يسمح بتنفيذ مشروع مدّ الغاز القطري عبر سوريا، مما يخفف من احتمال سيطرة إيران على موارد الغاز المأمولة إلى أوروبا.

وقد يكون الخيار الأفضل للغرب، وفق معايير سوق الغاز وطرق نقله، التخلص من نظام الأسد تماماً، وقيام نظام حليف للغرب بدمشق، يُتيح تنفيذ مشروع مدّ الغاز القطري. لكن هذا الخيار يحمل مخاطر جديّة في نظر الغرب، تتمثّل بانعدام وجود معارضة سورية يمكن الاطمئنان لها في ضبط المساحة السورية أمنياً، وحفظ أمن إسرائيل، وتمرير خط الغاز القطري. لذا يبدو أن الغرب، خاصة الولايات المتحدة الأمريكية، أميل للخيار الأسهل، وهو الوصول إلى تسوية مع إيران تسمح بمد غازها عبر أنابيب نابكو، وتُتيح تسوية في سوريا، بشراكة إيرانية –غربية، تُتيح إمكانية تنفيذ مشروع مدّ الغاز القطري.

خاتمة...أوكرانيا تفصيل صغير في قائمة المصالح الروسية

بكل الأحوال، ستكون روسيا خاسرة في هكذا تسويات أو تحولات استراتيجية في التحالفات بالشرق الأوسط، لذا يبدو أن موسكو ستعمل جاهدة على إفشال أي تسوية سياسية في سوريا، أو مع إيران، إلا إن كانت طرفاً فاعلاً ومؤثراً فيها، بما يضمن مصالحها في خارطة أنابيب الغاز وطرق إمداده إلى أوروبا.

ويبدو أمام ما سبق أن خط الغاز الروسي المار من شمال أوكرانيا لا يعدو إلا تفصيلاً صغيراً للغاية في قائمة المصالح الروسية، قياساً بما يمثّله أي تحول في العلاقة مع إيران وسوريا، على هذا الصعيد.

رابط الجزء الأول:

مقتل المصلحة الاقتصادية الروسية في خسارة إيران وسوريا وليس في أوكرانيا (1-2)

 

ترك تعليق

التعليق