سيناريوهات تقسيم سوريا بعد "يبرود والحصن"، و"مَقتَلُ" الاقتصاد فيها (1-3)

التدقيق في مسارات النشاط العملياتي لنظام الأسد وحلفائه لا يُوحي بنيّة هؤلاء بالانكفاء إلى "دويلة" في الساحل وأجزاء من وسط سوريا.

أحد المزايا الاستراتيجية غير المنظورة لإحكام السيطرة على القلمون من جانب الأسد، أنه يؤمّن لقواته القدرة على الانكفاء الآمن باتجاه وسط سوريا وساحلها، في حال تعرّض لعمل عسكري قويّ في دمشق، عجز معه عن الاحتفاظ بالعاصمة.

توجيه قدرات الثائرين المسلحين في القلمون باتجاه فن "الكرّ والفرّ"، كفيل تماماً بإفشال مخطط الأسد لتأمين القلمون كخلفية لوجستية لوجوده بدمشق.

المخاطر الاستراتيجية (الجغرافية –العسكرية) التي قد تهدد "الدويلة" المأمولة، باتت أقل حدّة، بعد سيطرة قوات الأسد على قلعة الحصن أخيراً.

هل تنجر منطقتا وادي خالد وعكار اللبنانيتين لتكونا ساحة مباشرة للحرب على الأسد، ولتكونا منصة مباشرة لانطلاق العمليات على قواته في بلدات ريف حمص الغربي التي سيطر عليها مؤخراً؟

 

كان لافتاً تطرّق العاهل الأردني إلى التحذير من مخاطر تقسيم سوريا في حديثٍ له مع صحيفة الحياة اللندنية، بُعيد سيطرة قوات نظام الأسد على كلٍ من يبرود في القلمون، ومن ثم قلعة الحصن في ريف حمص الغربي، بموقعهما الاستراتيجي في أية مخططات لإنشاء "دويلة علوية" في الساحل وأجزاء من وسط سوريا.

وإن كان التدقيق في مسارات النشاط العملياتي لنظام الأسد وحلفائه لا يُوحي بنيّة هؤلاء بالانكفاء إلى "دويلة" في الساحل وأجزاء من وسط سوريا، بل يؤكد رغبة ذلك الحلف بالسيطرة على كامل التراب السوري، أو في أقل الحدود، إحكام السيطرة على المناطق الخاضعة له اليوم، بما فيها دمشق العاصمة، وجنوبها. إلا أن ذلك لا ينفي في الوقت عينه، أن الأسد وحلفاءه حشدوا قدرات خاصة، ومهدوا منذ فترة ليست بالوجيزة، لمعركتهم الأخيرة في يبرود تحديداً. في حين كان الاستيلاء على قلعة الحصن خطوة نوعية في مسار إحكام السيطرة على ريف حمص الغربي، والذي عملوا على تحقيقه بمثابرة ملحوظة في الأشهر الأخيرة.

وهكذا تكون نتيجة القراءة الأولية لمسار عمليات النظام وحلفائه بأنهم يعملون على مبدأ الاستعداد للانكفاء في دويلة بالساحل وأجزاء من وسط سوريا، كاستراتيجية بديلة للاستمرار، في حال فشلت استراتيجيتهم الراهنة في إحكام السيطرة على دمشق وجنوبها، وأجزاء أخرى من باقي سوريا.

بناءً على تلك القراءة، قررت "اقتصاد" أن تراجع من جديد سيناريوهات تقسيم سوريا، التي سبق أن استعرضتها تفصيلياً في تقارير عديدة، متسلسلة، ومنفصلة، مركزةً على الأبعاد الاقتصادية والاسترايتجية والديمغرافية، التي تؤكد مرة أخرى، بأن الاقتصاد سيكون "مقتَل" هكذا دويلات، وأنها ستكون، بالفعل، كما وصفها العاهل الأردني، كيانات "هشّة"، سيتطلب بقاؤها استمراراً لـ "المدد" من الحلفاء، دون أن يهنأ ساكنوها بأية آمال لتحقيق تنمية اقتصادية – اجتماعية تليق بما تملكه سوريا "كاملةً" من ثروات وإمكانات.

يبرود...أحد وجوه البعد الاستراتيجي، و"مَقتل" الكرّ والفرّ فيها

كان لسعي نظام الأسد الحثيث للسيطرة على يبرود وعلى باقي مدن وبلدات القلمون، أسباب استراتيجية عديدة، تطرق لها الكثير من المراقبين في الآونة الأخيرة. أحد تلك الأسباب هو تأمين خطوط التواصل اللوجستية بين دمشق من جهة، وبين وسط سوريا والساحل من جهة أخرى، وذلك لتدعيم السيطرة على العاصمة دمشق. وهي استراتيجية الأسد وحلفائه في الوقت الراهن.

لكن أحد المزايا الاستراتيجية غير المنظورة لإحكام السيطرة على القلمون من جانب الأسد، أنه يؤمّن لقواته القدرة على الانكفاء الآمن باتجاه وسط سوريا وساحلها، في حال تعرض لعمل عسكري قويّ في دمشق، عجز معه عن الاحتفاظ بالعاصمة. وتلك أحد وجوه أهمية القلمون من منظور مخططات تقسيم سوريا.

إلا أنه تبقى هنا حيثية هامة، مطروحة للمستقبل في المدى المنظور، وهي: إلى أيّ حدّ سيتمكن نظام الأسد وحلفاؤه من إحكام السيطرة على منطقة القلمون؟، وهل سيتمكن من الخروج من دوامة الكرّ والفرّ فيها؟

من المعلوم أن أحد فنون "حرب العصابات" المُميتة، هي عدم الاحتفاظ بالمكان، والتركيز على معارك "الكرّ والفرّ"، التي عادةً ما تستنزف أعتى الجيوش في العالم. فهل ستتعرض قوات الأسد وحلفائه للاستنزاف في القلمون عبر ذلك الفن الحربي؟...يبقى هذا السؤال برسم الفصائل المقاتلة للأسد الناشطة في تلك المنطقة. وهنا نقول: إن توجيه قدرات الثائرين المسلحين في القلمون باتجاه فن "الكرّ والفرّ"، كفيل تماماً بإفشال مخطط الأسد لتأمين القلمون كخلفية لوجستية لوجوده بدمشق، والأهم من ذلك، أن هذا الفن الحربي كفيل تماماً بجعل سيناريو الانكفاء الآمن من العاصمة محض "حُلم"، كفيل بإجهاض أي سيناريو لتأسيس "دويلة" في الساحل ووسط سوريا، بناء على استراتيجية الانسحاب "في الوقت المناسب" من دمشق.

قلعة الحصن...وتأمين الطريق البري الواصل بين الساحل والداخل في "الدويلة" المأمولة

في حال فشل نظام الأسد في الاحتفاظ بدمشق، واضطر للانكفاء إلى وسط سوريا وساحلها، وتمكّن من تحقيق ذلك بصورة آمنة دون أن تتعرض قواته للاستنزاف في القلمون...هل تصمد دويلته استراتيجياً وديمغرافياً واقتصادياً؟

لنبدأ بالبعد الاستراتيجي (الجغرافي –العسكري)، والذي تطرق إليه الباحث السوري المختص بالدراسات الجغرافية، مصعب الرشيد الحراكي، في دراسته "تقسيم سوريا: بين مؤامراتهم وواقعنا- دراسة في الجغرافية السياسية"، والذي تحدث عن أن الطريق البري الأكبر بين شطري الدولة "العلوية" المأمولة، والذي من المفترض أن يربط بين الساحل والداخل، هو ممر سهل عكار، بین حمص وطرطوس، وهذا الممر في حال تمت السيطرة عليه من طرف ثاني، مناوئ لنظام الأسد، فإن الصلة تنقطع بين محافظتي طرطوس واللاذقية من جهة، وباقي مناطقهم في الداخل في محافظتي حمص وحماة من جهة ثانية، حيث إن الطرق الجبلية الواصلة بين الشطرين عبر جبال الساحل، وعرة جداً، ولا تصلح لمرور الشاحنات والسيارات الكبيرة.

ويبدو أن المخططين العسكريين في نظام الأسد وحلفائه كانوا يدركون جيداً هذه النقطة، لذا عملوا بصورة حثيثة في الأشهر الأخيرة لإحكام السيطرة على قرى وبلدات ريف حمص الغربي المناوئة لهم، خاصة تلكلخ والزارة، وأخيراً قلعة الحصن، وهو ما يؤمّن لهم ربط الساحل بالداخل في "الدويلة" المأمولة.

يعني ما سبق بأن المخاطر الاستراتيجية (الجغرافية –العسكرية) التي قد تهدد "الدويلة" المأمولة، باتت أقل حدّة، بعد سيطرة قوات الأسد على قلعة الحصن أخيراً.

لكن تبقى هنا أيضاً حيثية هامة، متروكة هي الأخرى للمستقبل في المدى المنظور، وهي ما يتعلق بمصير الحراك المناوئ للأسد وحلفائه في منطقتي وادي خالد وعكار اللبنانيتين، حيث يكمن خزان ديمغرافي ولوجستي متداخل مع ريف حمص الغربي، ومتعاطف مع الثائرين على الأسد، بل ومُتعاون معهم. ناهيك عن المقاتلين ضد الأسد الذين تمكنوا من الانسحاب بنجاح إلى هاتين المنطقتين، إضافة إلى النازحين السوريين القُدامى والجُدد.

فهل تبقى هاتان المنطقتان اللبنانيتان في إطار التورط غير المباشر في الصراع مع الأسد؟، أم تنجر لتكون ساحة مباشرة للحرب عليه، ولتكون منصة مباشرة لانطلاق العمليات على قواته في بلدات ريف حمص الغربي التي سيطر عليها مؤخراً؟

بطبيعة الحال، فإن الآفاق مفتوحة على كل الاحتمالات في المستقبل المنظور، وإن كانت القراءة الأولية لخارطة التوجهات الإقليمية والدولية، تُوحي بعدم رغبة معظم الفرقاء في نقل المعارك "السورية" إلى الداخل اللبناني، بصورة مباشرة. لكن الواقع القائم اليوم في شمال لبنان قد لا يبقى طويلاً تحت السيطرة، مما سيعقد المشهد الميداني السوري، ويفتح لبنان معه على خارطة واسعة من السيناريوهات.

بكل الأحوال، لنفترض بأن شمال لبنان بقي بعيداً عن التورط "المباشر" في الحرب "السورية". وأن نظام الأسد تمكن من إحكام السيطرة الكاملة على ريف حمص الغربي، وأمّن طريق التواصل الأساسي بين الساحل والداخل في "الدويلة" المأمولة...

حينها...ما مصير المخاطر الديمغرافية والاقتصادية التي تتهدد تلك "الدويلة"؟

يتبع

ترك تعليق

التعليق