في تحقيقٍ خاصٍ لـ "اقتصاد": الإيجارات بدمشق ولعنةُ المناطقية

"الدمشقيون يستغلون مصائبنا...الإيجارات تضاعفت عدة مرات، وهم يعلمون أننا خسرنا أملاكنا كلها في الأرياف".

هكذا تحدث إلينا سامح، وهو نازح من إحدى بلدات ريف دمشق القريبة من العاصمة، ويسكن في شقة مستأجرة بأكثر من 500 دولار أمريكي شهرياً، ويطلب مالك الشقة، كل ثلاثة أشهر، زيادة على الإيجار، تتلاءم مع تقلبات سعر الدولار، لكن حينما يهبط هذا الأخير، لا ينخفض الإيجار، كما أنه لا تنخفض أسعار السلع.

حينما سألنا سامح لماذا يستخدم صيغة التعميم على "الدمشقيين"، أصرّ بأن معظم مُلاك الشقق في العاصمة هم من الدمشقيين، وأنهم إما يرفضون التأجير لنازحين من مناطق مُلتهبة خشية أن يقعوا بمشكلات مع أجهزة الأمن، أو أنهم يستغلون ظروف هؤلاء البائسة ليُؤجروا شققهم بأسعار خيالية، حسبما أخبرنا.

لا تختلف وجهة نظر نادية، فهي رغم أنها دمشقية، إلا أنها مُرتبطة منذ قرابة العقد ونصف من مهندس ينحدر من حرستا، قرب دمشق.

"فقدنا بيتنا في حرستا بقذيفة دبابة، وفقدت عائلة زوجي معظم بيوتها التي كانت تؤجرها في حرستا، فقد كانوا يملكون الكثير من الأراضي والشقق. وحينما نزحنا إلى دمشق، لم نجد إلا قبواً في ركن الدين، طلب مالكه إيجاراً شهرياً قدره 60 ألف ليرة (ما يُعادل 400 دولار أمريكي تقريباً). لم نستطع دفع كلفته وحدنا، فسكنا فيه مع عائلة شقيق زوجي، ونعيش الآن حياةً بائسةً، النساء في غرفة، والرجال في أخرى، دون أية مقومات لحياة عائلية طبيعية".

مضى على نادية أكثر من سنة في الشقة المُستأجرة في ركن الدين، وقد أخبرتنا بأنها مرت بحالة أقرب إلى الانهيار العصبي منذ أشهر، قبل أن تتمالك نفسها من جديد، فهي تخشى على بناتها الثلاث، وذكرها الوحيد، من أن يضيعوا مع انهيار أمهم.

"كيف يطلب منا 60 ألف ليرة شهرياً، لو حسبنا نسبة التضخم في الأسعار فهي يجب ألا تتجاوز 300%، ولنفرض أن إيجار قبو بركن الدين قبل ثلاث سنوات، 10 آلاف ليرة، يجب أن يكون الإيجار اليوم 30 ألفاً، وليس 60 ألفاً".

مالك الشُقة الذي رفع الإيجار بنسبة 600% خلال ثلاث سنوات، يستغل النازحين من الريف، حسب نادية، وهو فعل وصفته بـ "الدنيء"، في ظل الظروف المأساوية التي يحياها النازحون من ريف العاصمة.

نهال بدورها تستأجر شقة بجرمانا، استطاعت أن تحصل عليها بـ 18 ألف ليرة، فيما كانت قبل الأحداث بإيجار شهري لا يتجاوز 6 آلاف، لكنها تعتقد بأن الإيجار مقبول نسبياً، وإن كانت لم تُخفِ عنا بأن صاحب المنزل، المُنحدر من محافظة السويداء، يأمل أن يخرجوا من المنزل، ليطلب إيجاراً أعلى من بُدلائهم، لكنه لم يضغط عليهم في سبيل ذلك.

"ليس جميع مُلاك الشقق في العاصمة من الدمشقيين، وليسوا بالضرورة يختصرون بسلوكياتهم سكان العاصمة الأصليين"، هكذا تدافع ابتسام، الدمشقية، عن أهل مدينتها.

تُضيف: "أنت تعلم أن العاصمة مُختلطة سُكانياً، وهناك الكثير من سكانها ليسوا دمشقيين، لكن الوافدين من محافظات أخرى، أو من الريف، تختلط عليهم الأمور، ويقيسون الأوضاع في العاصمة على الأوضاع في بلداتهم، حيث النسيج الاجتماعي الواحد".

وتروي لنا ابتسام كيف أنها اصطدمت بامرأة نازحة من ريف دير الزور في إحدى حدائق ركن الدين بدمشق، كانت قد أخذت أولادها للتنزه، فتشاجر أولاد الطرفين، حينها اندفعت المرأة النازحة لتهاجمها بشدة، وقالت لها: "أنتم متكبرون، وتستغلون حاجتنا". صُدمت ابتسام يومها كثيراً، خاصة أنها تعرف الكثير من الدمشقيين ممن يقدمون مساعدات لأقارب لهم نازحين من الريف، وبعضهم يقدم مساعدات مالية لتجمعات النازحين من حمص ومن شمال سوريا، حسبما أخبرتنا.

أم خالد، أرملة دمشقية، ترك لها زوجها ثلاث شقق غير شقتها التي تسكنها، ولديها ثلاث بنات، تعتاش على تأجير الشقق وتصرف من الإيجارات على بناتها المُراهقات.

"اضطررت لرفع الإيجارات، كي أُماشي الارتفاع في تكاليف المعيشة...فمن أين سآتي بالمال للإنفاق على أسرتي؟، لا معيل لدي، ولولا هذه الشقق التي تركها زوجي لكنّا بلا مصدر مالي".

أكدت لنا أم خالد أنها حرصت على ألا ترفع أسعار الإيجارات بصورة ظالمة، وأنها راعت نسبة الارتفاع في الأسعار، وعلى أساسها رفعت الإيجارات بنسبة 300% خلال ثلاث سنوات.

توفيق، وهو تاجر دمشقي، يؤكد لـ "اقتصاد" تفاقم الحساسية المناطقية بين سكان الريف والعاصمة، يقول: "الطرفان لا يُقدّران أوضاع بعضهما، فبعض الدمشقيين يخافون من أن يتورطوا بمشاكل أمنية في حال أجروا شققهم لنازحين من الريف القريب، الذي عُرف بمناوئته للنظام، وسط تشديد أمني على هذه الحالات، بالمقابل، هناك من يحاول أن يستغل بدوره هذه الأزمة فيرفع الإيجارات بصورة كبيرة غير عادلة، وبين هاتين الحالتين، شريحة واسعة من الدمشقيين رفعت الإيجارات بصورة عادلة ومقبولة، تتناسب مع التضخم في الأسعار، خاصة أن هذه الشريحة في معظمها تعيش من وراء إيجارات بعض الشقق، دون أن ننسى أن جزءاً من مُلاك الشقق في قلب العاصمة ليسوا دمشقيين، كما تعلم. ناهيك عن شريحة أخرى واسعة من الدمشقيين التي أسكنت أقربائها النازحين من الريف في شققها. وأخيراً هناك شريحة واسعة أخرى لا تملك شققاً غير التي تسكنها. لذا فالتعميم السائد هنا ظالم للغاية".

وتذهب تقديرات أولية بأن سكان العاصمة، دمشق الإدارية، تزايدوا إلى أكثر من 8 ملايين نسمة، بعد أن كانوا حوالي 3 ملايين قبل ثلاث سنوات، دون وجود أرقام دقيقة، أو جهات رسمية أو بحثية تقدم إحصاءات علمية. لكن ارتفاع الإيجارات بصورة هائلة بدمشق، وصعوبة، وأحياناً، استحالة إيجاد شقق فارغة للإيجار، تؤكد بأن العاصمة تعاني من ازدحام بشري غير مسبوق في تاريخها، وسط تلاعبٍ من جانب النظام على أوتار الحساسيات المناطقية التي تفاقمت، مع محدودية الوعي لدى البعض، في ظروف من الفاقة، والرعب الأمني المُتفاقم، وترسخ عقلية "التعميم" لدى جزء كبير من السوريين.

ترك تعليق

التعليق