محمد بلكي يروي لـ "اقتصاد" تجربتيه...اعتقال على يدّ "داعش" ونجاة من "قُطّاع طرق" على يدّ "النُصرة"

روى محمد بلكي، شاب سوري عشريني، لـ "اقتصاد"، تفاصيل تجربتي اعتقال وخطف مرّ بهما في سوريا خلال العام الفائت، سمحتا له بالاحتكاك مباشرةً بمقاتلين من تنظيمين "جهاديين" مثيرين للجدل على الساحة السورية، هما تنظيم "الدولة الإسلامية في العراق والشام – داعش"، وتنظيم "جبهة النُصرة لأهل الشام".

لأنه "مُفطر"...تعرض للضرب المُبرح والاعتقال على يدّ "داعش"

فبعد أن تملكه الفضول للتعرّف على أسطورة "داعش" بصورة مباشرة، استغل محمد بلكي فرصة عمل مُحتملة في راديو يعمل من الرقة، ليدخل الأراضي السورية، من تركيا، متجنباً المعابر الحدودية الرسمية. وبالفعل، أشبع القدر فضول بلكي، فأطلعه مباشرةً على جوانب من طريقة عمل "داعش" ورجالها الأجانب، والسوريين، على حدٍ سواء.

ففي المحافظة السورية الشمالية، الرقة، التي خضعت منذ ربيع العام 2013 لسيطرة "الدولة الإسلامية في العراق والشام – داعش"، تعرض محمد بلكي للاعتقال، بذريعة أنه "مُفطر"، بعد مشادة مع مقاتلٍ على أحد حواجزها. وسِيق بلكي إلى سجنٍ موجودٍ في مبنى المحافظة، حيث مقرّ "داعش" الرئيسي في مدينة الرقة.

يروي لنا محمد بلكي ملابسات اعتقاله مع سائق التكسي الذي كان برفقته، وشابٍ شاركه السيارة، ينتمي إلى عشيرة البوجراد بتل أبيض، شمال الرقة. محمد الذي تربى في بلدٍ لم تكن السلطات فيه تمارس أي قسرٍ بخصوص الشعائر الدينية، تساهل في الصيام، فقرر أثناء السفر أن يدخن سيجارة، وسط ترحيب سائق التكسي. لكن الأخير سرعان ما انتبه إلى أنهم على بُعد 100 متر فقط من حاجزٍ لمقاتلي "داعش". حيث باتت الرقة "إمارة إسلامية" تطبق "الشريعة"، ويكون فيها "الإفطار" في نهارات رمضان، جريمة لا تُغتفر.

رمى محمد السيجارة قبل مسافة من الحاجز. تقدم مقاتلٌ ملثمٌّ، كان من الواضح أنه غير سوري. رجّح محمد أنه ليبي. تعامل بصورة مستفزة معهم، ودقق في هوية محمد بعد أن لاحظ أنه غريب عن المنطقة. سأله عن أسباب زيارته إلى الرقة، فأجابه محمد. فجأةً ازدادت وتيرة الحدّة في سلوك المقاتل "الداعشي"، بعد أن اكتشف رائحة الدخان في السيارة، فسأل محمد لماذا يدخن. تعلل الأخير بالمرض، وطول السفر من أنطاكية، بتركيا، إلى الرقة، مؤكداً أنه لا يدخن أمام أحد، وأنه عادةً ما يصوم. لكن المقاتل طلب منه الترجل من السيارة. حاول محمد التهرب من الطلب، وإطالة النقاش مع المقاتل على أمل الخروج من هذه الورطة، لكن الأخير هدّده، وأشار بإصبعه إلى سيارة "الفور باي فور" التي كانت تقف قريبة من هناك. علم محمد أن السيارة تضم عدداً من مقاتلي التنظيم فشعر بالخوف، لكن الغضب تملكه لاحقاً، بعد أن أخذ المقاتل المُلثّم يصرخ ويهدد، فزل لسان محمد بكلمات دفع ثمنها كسوراً في أحد الأطراف، وإصابة بالغة في العين، واعتقال دام سبعة أيام في سجن المحافظة.

كلمات دفع ثمنها غالياً..."لماذا لستم على الجبهات؟"

قال محمد للمقاتل "الداعشي": "أنت لست سورياً، لا يحق لك أن تعتقلني...ألم تأتوا للجهاد، لماذا تقف هنا، لماذا لا تذهب إلى الجبهة؟".

تعرض محمد بعد هذه الكلمات للضرب الشديد من عدة مقاتلين من "داعش"، وسِيق إلى مبنى المحافظة في الرقة. المبنى الأخير الذي يُعرف بأنه من أكبر المباني الرسمية في مدينة الرقة، حولته "داعش" إلى مقرٍ رئيسي لها. وحولت بعض أجنحته إلى سجن للاعتقال والتحقيق. وهو ذات المبنى الذي سأل صحفي سوري وزير الإعلام في حكومة الأسد، عمران الزعبي، "لماذا لا تقصفوه ما دمتم تحاربون الإرهاب؟"

جهلٌ بالأحكام الشرعية...وسوريّ ينظم أداء مقاتلي "داعش"

سُجن محمد بلكي في غرفة فيها ستة أشخاص، وبقي يومان يضرب على الباب بعنف، وهو في حالة مُزرية، ويطلب نقله إلى المستشفى، وفي كل مرة كان أحد السجانين غير السوريين يتحدث إليه بالفصحى قائلاً: "اخرس"، متهماً المُعتقلين بأنهم "كَفرة".

نقلوه إلى المستشفى. وعالجوا ذراعه المكسورة، وعينه المتورمة. ومن ثم أُعيد إلى السجن، حيث أُجبر على الصلاة والصيام، وكان "إفطارهم" في رمضان عبارة عن "صحن برغل"، وسُحورهم "خبز وزيتون".

لاحظ محمد جهلاً واضحاً في الأحكام الشرعية من جانب السجانين والمقاتلين، فقد أجبروه على التوضأ وإسالة الماء على يده المُجبّرة، رغم أن الاجتهادات الفقهية في هذا المجال تُبيح عدم إسالة الماء على أعضاء الجسم في حالة الضرر.

لم يتعرض محمد للتحقيق، ولا للتعذيب، لكنه شاهد أشخاصاً تعرضوا للجلد، وبعضهم، كحاله، للضرب المُبرح. وفي نهاية مدة سجنه عُرض على عنصرٍ سوري الجنسية، كان أول سوريّ يقابله منذ اعتقاله. لاحظ محمد هدوء وخُبث في سلوك العنصر السوريّ، كما وصف. كان السوريّ يُعطي الأوامر للعناصر الأخرى غير السورية. أعطاه بعض النصائح، ومن ثم أوعز بإطلاق سراحه.

المال تبخر

محمد أخبر العنصر السوريّ أن له حقيبتان، فيهما هاتف خليوي وبعض المال، حينها تغير مزاج الرجل، واحتدت لهجته، فحاول محمد تلطيف الأجواء مؤكداً أنه لا يشكك بهم، "ربما كانت في الأمانات؟". وبالفعل أحضر أحد المقاتلين حقيبتيه، لكن المال الذي كان فيهما، تبخر. ورغم ذلك شعر محمد بالسعادة، فقد استعاد الهاتف الخليوي، وبعض الأغراض من بينها رواية وضع في أحد صفحاتها 200 دولار، استعان بهم للخروج من الرقة عائداً إلى تركيا، ومن ثم إلى بيروت في لبنان.

الشاب الذي كان يرافق محمد في سيارة التكسي، والذي ينتمي إلى عشيرة البوجراد، أُطلق سراحه مُباشرةً، واكتشف محمد أن بعض العشائر السورية في محافظة الرقة تتعاون مع "داعش". كما لاحظ أن بعض القيادات السورية، التي لا تحتك مباشرةً بالعامة، لها دور نافذ في إدارة أداء مقاتلي التنظيم، الذين في غالبيتهم العظمى من غير السوريين.

تركت تجربة محمد في الرقة ذكرى أليمة في ذهنه، وإن كانت أشبعت فضوله، وعرّفته على التنظيم "الأسطورة – داعش"، الذي تحوّل لاحقاً، في مطلع العام الجاري ليصبح العدو اللدود لمعظم الفصائل الإسلامية المُجاهدة في سوريا، حتى منها تلك التي خرجت من ملاءة "القاعدة"، كتنظيم "جبهة النُصرة"، ناهيك عن "الجبهة الإسلامية" التي تضم أكبر الفصائل الإسلامية "الإخوانية والسلفية" في سوريا.

اختطاف على يدّ "قُطّاع الطرق" في القلمون

لكن تجربة محمد في الرقة لم تكن كافية كي تردعه عن تكرار المحاولة للعمل من داخل سوريا، إذ حاول بعد عدة أشهر دخول العاصمة السورية دمشق. ولأنه كان مُلاحقاً من جانب الأجهزة الأمنية الرسمية بحكم نشاطه الثوري المُناوئ لحكومة الأسد، قرر محمد أن يدخل بصورة غير شرعية، عبر الحدود اللبنانية، مروراً بمنطقة القلمون، التي كانت حينها، في خريف العام الماضي، خاضعة في معظمها لسيطرة فصائل مُسلحة من المعارضة.

دخل محمد من عرسال، شرق لبنان، إلى القلمون، شمال العاصمة دمشق، وقبل أن يصل إلى بلدة يبرود، أبرز معاقل المعارضة المسلحة قبل أن يسيطر عليها جيش النظام بدعم من حزب الله اللبناني، وفي منطقة السحل تحديداً، قرب البلدة، تعرض محمد للخطف من جانب "قُطّاع طُرق"، بقي بحوزتهم سبع ساعات، كانوا خلالها يُراقبون الطرقات الجبلية الوعرة، لينقضوا على أية سيارة يبدو لهم أنها تتضمن حمولة "دسمة". وذلك قبل أن تشتبك معهم مجموعة مسلحة أخرى. قدمت إثر الاشتباك، قوات من "جبهة النُصرة"، وسيطرت على الموقف، واعتقلت "قُطّاع الطُرق". نُقل بعدها محمد إلى أحد مقرات "جبهة النُصرة" في بلدة يبرود بالقلمون.

فروق ونقاط التقاء بين "النُصرة" و"داعش"

محمد لاحظ نقاط افتراق هامة بين "جبهة النُصرة" وبين نظيرتها "داعش"، بالرغم من أن الأولى خرجت من ملاءة تنظيم "القاعدة"، وتحمل جوانب ملحوظة من فكر التنظيم واستراتيجياته. لكن "النُصرة" لم تكن تنصب الحواجز في الطرقات، كما تفعل "داعش" في الرقة، كما أن معظم مقاتلي الأولى سوريين، وكانوا أكثر دماثة من نظرائهم في "داعش". لكن محمد لاحظ أيضاً نقاط التقاء بين التنظيمين، ففي الحالتين أُلزم بالصلاة، وقراءة القرآن.

حقّق مقاتلون من "جبهة النُصرة" مع محمد، بلُطف، متسائلين عن سبب دخوله للمنطقة، وعن سبب كثرة الختوم على جواز سفره. باستثناء ذلك، كانت تجربة محمد مع الجبهة إيجابية، إلا أنه لاحظ وجود "تطرف" لدى الشباب السوريين من مقاتلي الجبهة، حسبما وصف. ففي نقاش مع بعض شبابهم اليافع، في إحدى الليالي التي قضاها معهم، وفي سياق الحديث، ترحّم محمد على صديق مسيحي قُتل في المظاهرات ضد حكومة الأسد في بدايات الثورة، فأدان الشباب فعله، متسائلين: "كيف تترحم على مسيحي، لا تجوز عليه الرحمة". لذا يعتقد محمد، الذي التزم جانب الحيطة والحذر حينها، أنه لو زلّ بكلامٍ لم يعجبهم، ربما كان تعرض لموقفٍ لن يختلف كثيراً عن ذلك الذي تعرض إليه مع "داعش"، مع اختلافٍ في الشدّة.

تعزيز الريبة في علاقة "داعش" بالأسد

بكل الأحوال، كانت تجربة محمد مع اعتقالٍ على يد "داعش"، ونجاةٍ من "قُطّاع طُرق" على يد "النُصرة"، كفيلة بتكوين قناعات حول التنظيمين، والفروق بينهما، في نظر محمد. ففي حين تعززت ريبة محمد في تنظيم "الدولة الإسلامية في العراق والشام – داعش"، خاصةً لجهة علاقتها السرية المُحتملة مع حكومة الأسد، تعززت في الوقت نفسه قناعته حيال "جبهة النُصرة" الذي لحظ إخلاصاً من جانب مقاتليها، دون أن ينفي ذلك تغلغل قناعات، وصفها محمد، بـ "المُتطرفة" في عقولهم، حتى لو كانوا ينفونها بالحديث عن ضرورة ضمان "حقوق الأقليات".

ترك تعليق

التعليق