"النوري" والانتقاد" الأندبوري"

يمكن للعارفين بخفايا عمل الإعلام في العقد الماضي من حكم الأسد، أن يلحظوا بدقة أن مرشح "الانتخابات الرئاسية السورية"، حسان النوري، يقف تحت سقف ما كان يُسمح بانتقاده حينها. وأن نظام الأسد لم يغيّر، رغم مآسي السنوات الثلاث الماضية، من استراتيجيته الإعلامية –السياسية في الداخل، إلا من ناحية التكتيك، دون أن يطال الجوهر.

فكل من عمل في الإعلام والاقتصاد والإدارة خلال عقد حكم الأسد الابن بين عامي 2000 و2010، يعلم جيداً أن سقف ما يمكن انتقاده حينها، كان يقف عند الاستراتيجيات الاقتصادية والأداء الاقتصادي والإداري والاجتماعي، أما السياسة الخارجية والأمنية والعسكرية، فلا يجوز النيل منها، بأي شكلٍ كان. كما لا يجوز النيل من أشخاص عائلة الأسد والمقربين منه بالانتقاد، أو التلميح بالمسؤولية عن فسادٍ ما.

وكان يمكن تغليف النيل من مقربين من الأسد، عبر انتقاد سياسات اقتصادية أو صفقات استثمارية من باب المسؤولين الرسميين عنها، وليس من باب النيل من أولئك المقربين بصورة مباشرة.

كما كان من المسموح النيل من المسؤولين الذين يختارهم الأسد، وتغليف الانتقاد لاختياراته تلك، بحيث يكون انتقاداً غير مباشرٍ، دون النيل من شخصه أبداً.

أما الأمن والجيش والسياسة الخارجية، فكانت محرمات يدفع أكثر المقربين الإعلاميين من السلطة، أثماناً باهظة، حينما يخطئ فيقترب من سياجها.

واليوم، من يدقق في تصريحات حسان النوري، مرشح "الرئاسة السورية"، خاصة في حديثه الأخير لوكالة فرانس برس، حول مثالب الأداء الاقتصادي لحكومات الأسد، يجد أن الرجل يلعب في نفس قياس الهامش الذي كان يُسمح للإعلاميين والاقتصاديين اللعب ضمنه.

وكان هذا الهامش، بقياساته الدقيقة، يُحدد من جانب جهاز مخابرات أمن الدولة، بصورة أساسية، والذي ترأسه في الفترة الأخيرة قبل الثورة، اللواء علي مملوك، قبل أن يترفع ليقود مكتب الأمن القومي، الذي بات يُعتبر الدائرة الأضيق لاتخاذ القرار في رأس الهرم الأمني لنظام الأسد.

حسان النوري ركز في حديثه على ضرورات الإصلاح الاقتصادي ومكافحة الفساد، معتبراً أن الأزمة بدأت في سوريا كمطالب محقة، قبل أن تدخل "حرب كونية ومؤامرة خارجية" على الخط.

وحمّل النوري بشار الأسد شخصياً مسؤولية الخطأ في إدارة الأزمة في بداياتها، معتبراً أن "تبويسة شوارب" في درعا، كان يمكن لها أن تحل الأزمة.

لا نستطيع أن ننفي ما سبق وقاله النوري تماماً، إذ من المستحيل أن نعرف إن كان زيارة الأسد التي لم تتم يومها إلى درعا، كانت ستحل الأزمة بالفعل أم لا. لكن المعنى الدقيق لكلام النوري يحرف مطالب السوريين عن البعد السياسي، ويركزها على الأبعاد الاقتصادية والإدارية والخدمية.

فهو يركز على أخطاء حكومات الأسد في العقد الماضي في الجانب الاقتصادي، والتي جعلت ثروة الوطن محتكرة بيد مائة عائلة، كما قال، وأن "آلية تطبيق اقتصاد السوق الاجتماعي كانت تتم عبر معايير مزاجية ومشخصنة".

لكن النوري، الذي شغل منصب وزير دولة لشؤون التنمية الإدارية بين العامين 2000 و2002، والذي يُعتبر أحد أعضاء عالم "رجال الأعمال" في سوريا، يعلم تماماً كيف يُدار الشأن الاقتصادي والاستثماري والإداري، وكيف أن "الترهل الإداري" الذي انتقده، يعبّر عن استراتيجية فساد ممنهجة منذ عقود، لا بد أن النوري كان أحد المتورطين فيها، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، من خلال أدواره في السلطة وفي مجال الاستثمار.

استراتيجية الفساد المُمنهجة تلك ليست نتاج فشل الأسد الابن في الأداء الاقتصادي، كما ألمح النوري، بل هي نتاج مصالح النخبة المقربة من الأسد، وتلك التي تقوم ركائز سلطة هذا الأخير عليها. نخبة من كبار ضباط الأمن والجيش والعائلة والطائفة، مع قاعدة أوسع من رجال أعمال انتهازيين ومسؤولين "تنفيذيين" يُشرّعون ما تقرره تلك النخبة، ويخرجونه بصورة قوانين رسمية.

ولا بد أن النوري نفسه يعلم، وهو الذي انتقد اختيارات الأسد للمحافظين، أن تلك الاختيارات مبنية على مصالح النخبة الحاكمة، قوامها مدى الثقة بقدرة الرجل المُختار على خدمة تلك المصالح بأحسن صورة ممكنة.

في نهاية المطاف، لا يبدو أن أحد "منافسَي" الأسد قادرٌ على تخطي حدود النقد المتاح، نقد السطح، وليس نقد الجوهر، نقد المسؤولين في العلن، دون أن يطال مسؤولي "الخفاء" الحقيقيين.

وفي نهاية المطاف، يبدو أن حسان النوري، لم ينَل إلا حق انتقاد "أندبوري"، ينطبق على معنى هذه الكلمة العامية، فهو انتقاد فقير، يفتقد إلى العمق، وإلى الحقيقة، التي لا بد أن النوري يعلمها تماماً، لكن دوره المرسوم بعناية، لا يسمح له بتخطي السطح أبداً، وتبقى نخبة النظام الحاكمة فعلاً، والتي يعرفها كل السوريين، بعيدة عن أي نقد، وهي نخبة لا يبدو أن الأسد ذاته قادراً على ضبط إيقاعاتها، إلا بالصورة التي تخدم مصالحها، وربما أن الأسد نفسه، كي لا نظلم النوري، لا يستطيع مسّ مصالح تلك النخبة، وإلا، انقلبت عليه، فكان كـ "حسان النوري"، شخص "أندبوري".

ترك تعليق

التعليق