ما بين "البورجوازية" و"الشخصية المُستكينة": قراءة في ملف رؤوساء وزراء "سوريا الأسد" (1- 2)

ربما يكون حافظ الأسد آخر رؤساء وزراء سوريا الفاعلين، حينما تولى منصب رئيس الوزراء في سوريا بعيد انقلابه العسكري على زملائه في البعث الحاكم، في تشرين الثاني من العام 1970. حينها عُين أحمد الخطيب، رئيساً "صُورياً" للجمهورية، لفترة مؤقتة، تولى خلالها حافظ الأسد رئاسة الوزراء إلى أن أُجري "استفتاء" أصبح بموجبه، حافظ الأسد، الرئيس "المُزمن" لسوريا، طوال ثلاثة عقود، بدأت في شهر نيسان من العام 1971.

وطوال عقود حكم الأسد الأب، ومن بعده الابن، فقدَ موقع رئاسة الوزراء دوره الفاعل، وتحول إلى موقعٍ إداري تنفيذي، مهمته إدارة تنفيذ سياسات الرئيس والنخبة الضيقة المحيطة به، والحاكمة فعلياً للبلاد.

قبل حافظ الأسد، كان لمنصب رئاسة الوزراء دوراً فاعلاً في إدارة البلاد ورسم سياساتها، خاصةً قبل عهد حكم البعث، حيث كانت سوريا دولة نيابية، يكون فيها الكلمة الفصل لرئيس الوزراء.

في بداية عهد الأسد الأب، وتحديداً منذ إقرار دستور العام 1973، تحولت سوريا إلى جمهورية رئاسية، يكون لرئيس الجمهورية فيها الصلاحيات الأبرز في السلطة التنفيذية، ويصبح فيها رئيس الوزراء منفذاً لسياسات الرئيس، لكن ذلك لم يمنع وصول شخصيات مؤثرة إلى رئاسة وزراء البلاد، لكن بالحدود التي كان حافظ الأسد يسمح بها، فقط.

قد يكون من أشهر تلك الشخصيات في حقبة الأسد الأب، رئيس الوزراء السوري الأسبق، عبد الرؤوف الكسم، ابن العائلة الدمشقية العريقة، والذي ساهم في تدعيم علاقة نظام الأسد بجزء من البورجوازية الدمشقية، في أحلك أيام الاسد الأب، أيام المواجهة الدامية مع الإخوان المسلمين، والصراع المستعر بين قيادات الجيش والأمن المقربين منه، حيال قضية خلافته، خاصة من جانب شقيقه، رفعت الأسد، قائد "سرايا الدفاع".

يذكر الكثير من المطلعين على خفايا تلك الحقبة أن عبد الرؤوف الكسم كان ممقوتاً من جانب رفعت الأسد، نظراً لما كان يحظى به من دعم من جانب قيادات بارزة في الجيش، من المنافسين لرفعت، في مقدمتهم رئيس الأركان الأسبق، حكمت الشهابي. كما كان للكسم جولات في الصدام "السياسي -الإداري" مع متنفذين في الجيش والأمن، خاصة من المحسوبين على رفعت الأسد، لذلك يتحدث باتريك سيل، الصحفي البريطاني الذي وثّق سيرة حافظ الأسد، عن أن رفعت طلب من شقيقه إقالة عبد الرؤوف الكسم من موقعه في العام 1984، لكن حافظ رفض، وأبقى على الكسم.

كان عبد الرؤوف الكسم حينها تعبيراً عن المراحل الأخيرة من نفوذ البورجوازية المدينية (الحلبية -الدمشقية)، وعلاقاتها مع نافذين في الجيش، وتأثيرها في النظام الحاكم. وكان حافظ الأسد يراهن على التفاهم مع تلك البورجوازية، خاصة الدمشقية منها، في مواجهته الدامية مع الإخوان المسلمين في ذلك الحين.

لاحقاً اقتصر نفوذ البورجوازية المدينية (خاصة الدمشقية) على البعد المالي -التجاري، بعد أن فقدَ الدمشقيون والحلبيون أي نفوذ لهم داخل الجيش في سلسلة التصفيات والتسريحات التي طالت معظم الضباط المنحدرين من المدينتين في النصف الثاني من حقبة الثمانينات.

في العام 1985، تمكن حافظ الأسد من أن يُخرج شقيقه، الطامح بخلافته، من معادلات القوة في سوريا، مفسحاً المجال بذلك لتحضير ابنه باسل لاحتلال ذلك الموقع، موقع "الخليفة" المُنتظر للأسد الأب.

ومنذ العام 1987، بدا أن حافظ الأسد تجاوز معظم التحديات الخطيرة لحكمه المُطلق للبلاد، فقد تم تطويق خطر الإخوان المسلمين تماماً، وتم تقليص نفوذ شقيقه المنفي إلى أضيق الحدود في الداخل، وتم ضبط التوازنات بين قيادات الجيش والأمن بحيث تبقى جميع "الحِبال" في قبضة الأسد، مما دفع الأخير إلى القيام بخطوة، تعبر، فيما يبدو، عن مسعاه لتقليص تأثير البورجوازية الدمشقية التقليدية، عبر تكليف محمود الزعبي، المهندس الزراعي، المنحدر من ريف درعا، بموقع رئاسة الوزراء بدلاً من عبد الرؤوف الكسم.

لم يكن محمود الزعبي يحظى بأي دعم من أي مجموعة تأثير اجتماعية، كحال عبد الرؤوف الكسم، الذي عبّر في فترة محددة عن تحالف جزء من البورجوازية الدمشقية مع نظام الأسد، لذلك عمل الزعبي على تعزيز موقعه عبر إرضاء النافذين في الجيش والأمن، فتفشى الفساد في حقبته إلى درجات غير مسبوقة، ورغم أن حكومة الكسم لم تخلُ من حالات فساد مُشينة، إلا أن الكسم كان يدخل من حين لآخر في مواجهات "سياسية -إدارية" مع أتباع بعض الشخصيات النافذة في الجيش والأمن، بدعم من أخرى.

 أما في حالة محمود الزعبي، فيبدو أن الأخير حاول نيل رضا الجميع، مما جعل الاقتصاد السوري نهباً للفاعلين في الجيش والأمن، في حقبة كانت فيها إيرادات النفط تتزايد وتعدّ البلاد بمصادر دخل غير مسبوق، لكنها جميعها ذهبت، حسب تصريح شهير للزعبي، إلى "أيدٍ أمينة".

يمكن لمن يراجع شخصيات رؤوساء وزراء سوريا خلال حكم الأسد الأب، أن يلحظ فارقاً بارزاً بين حقبتي عبد الرؤوف الكسم، وخلفه، محمود الزعبي، وهي أن شخصية الأخير أكثر استكانة ومسايرةً، وهي الشخصية المُحبذة للنخبة الأمنية –العسكرية الحاكمة للبلاد، مما جعل الزعبي صاحب أطول فترة كرئيس للوزراء، لكن طول فترة إدارته لهذا الموقع، وإطلاعه على الكثير من الملفات التي تتضمن حقائق خطرة عن فساد الثُلة الحاكمة، جعل محمود الزعبي شخصية خطرة على مصالح آل الأسد والمقربين منهم.

ترك تعليق

التعليق