حينما يعمل المحامي "كاشيير" في مطعم: مأساة الأطباء والمحامين والمهندسين السوريين في مصر

في مصر، ليس من الغريب أن تقابل محامياً أو مهندساً سورياً، يعمل "كاشيير" في مطعم، أو عازف كمان في كافييه. ومن الشائع في مصر أيضاً، أن ترى عشرات الأطباء السوريين الذين كانوا في مواقع مهنية ناجحة للغاية في بلادهم، بلا عملٍ، أو على الأقل، يعملون تحت جنح الظلام، في عيادات أو مستشفيات مصرية، بصورة مخالفة للقانون، خاضعين لابتزاز المصري الذي يُشغلهم.

منذ الانقلاب الذي أطاح بالرئيس المصري محمد مرسي تعرض السوريون للتضييق على صُعدٍ مختلفة، قد يكون أبرزها، وأكثرها إيلاماً، التضييق في مجال لقمة العيش. لكن هناك شرائح مهنية معينة دفعت أثماناً باهظة أكثر من أخرى، ففي الوقت الذي تمكن فيه أصحاب المهن الحرفية والتجارية من أن يجدوا سُبلاً مختلفة للانخراط في سوق العمل المصرية، عجز أصحاب الكفاءات العلمية، خاصة شرائح الأطباء والمحامين والمهندسين، من أن يجدوا لهم موضع قدم، شرعية، في سوق العمل ذاتها، والسبب في ذلك التشريعات القانونية المصرية التي لا تُجيز لأصحاب هذه الكفاءات العمل، وتضع شروطاً تعجيزية أمام الحلول القانونية المتاحة لديهم. وقد رافق تلك التشريعات تطبيقٌ صارمٌ من جانب السلطات المصرية منذ الانقلاب على مرسي، وما تبعه من موقفٍ سلبي حيال السوريين بتهمة مناصرة الإخوان المسلمين.

د. سليم، طبيب أسنان، تمكن بعد أكثر من سنة وثمانية شهور من البطالة في مصر، من أن يقتنص فرصة عمل في عيادة طبيب مصري، لمدة أربعة شهورٍ فقط، قبل أن تصله أخبار من زميل سوري له، بأن السلطات الصحية المصرية تشن حملةً ضد الأطباء السوريين في مدينة مصرية، تتحفظ "اقتصاد" عن ذكرها تحسباً من أي تبعاتٍ أمنيةٍ قد تطال الأطباء الذين تحدثوا فيها لنا عن مشكلاتهم، نظراً لصغرها ومحدودية الأطباء السوريين فيها.

يقول د. سليم (اسم مستعار): "قدِمتُ من حماه إلى مصر بصحبة عائلتي تحسباً من المستقبل الغامض الذي يكتنف الوضع في سوريا، وكان معي 40 ألف دولار. قضيت في مصر سنتين، صرفت خلالها 30 ألف دولار، وبقيت دون عمل، باستثناء 4 شهور، عملت خلالها في عيادة طبيب مصري، وحققت نجاحاً مهنياً ملحوظاً، أنا وطبيب أسنان سوري آخر، عمل في عيادةٍ أخرى، وحصدنا في المدينة المصرية سمعة جيدة، لكن نقمة الأطباء المصريين المنافسين، على ما يبدو، دفعت أحدهم للإبلاغ عنا، فقامت السلطات الصحية المصرية باستدعاء صديقي، وكاد يتعرض للاعتقال لولا تدخل محامي مصري يتمتع بعلاقات جيدة، تمكن من لملمة الموضوع.

وانحصر الأمر بإجبار صديقي على توقيع تعهد بعدم العمل مرة أخرى. ومنذ أن وصلني نبأ ما حدث معه، قررت التوقف عن العمل أنا الآخر، وعدت إلى عالم البطالة".

يؤكد سليم لـ "اقتصاد" أن شروط الحصول على ترخيص العمل في مصر تعجيزية، ورغم أنه يملك كل الأوراق الثبوتية المطلوبة إلا أن القضية، حسبما استشعر، هي عدم نيّة من جانب السلطات المصرية في الترخيص للأطباء السوريين، بصورة مطلقة.

سليم يفكر بالعودة إلى سوريا، رغم الغموض الذي يحيط بمصير البلاد، وخشيته من المجهول، لكنه يؤكد أن المجهول في سوريا أرحم من حالة التشرد والبطالة التي يعيشها هنا في مصر، كما أن سليم غير مستعد للتجربة في بلدٍ آخر، كتركيا مثلاً، خشية أن يلقى الصعوبات ذاتها، وأن يخوض تجارب فاشلة أخرى، ويصرف ما بقي لديه من مال قد يعينه على ظروف الحياة العصيبة المُحتملة.

حقق سليم، وصديقه، الذي تحفظ عن ذكر اسمه خشية أن يتعرض لمشكلات مع السلطات المصرية، نجاحاً مهنياً كبيراً، اجتذب زبائن لأطباء مصريين آخرين. تقول ابتسام، وهي سورية تقيم في المدينة المصرية ذاتها: "لا أثق بالأطباء المصريين هنا، فسمعتهم غير مشجعة، خاصة أطباء الأسنان، لذلك بحثت بصورة حثيثة عن أطباء أسنان سوريين، وتوفقت بأحدهم بالفعل".

يقول د. سليم لـ "اقتصاد": "أطباء الأسنان المصريون هنا يطلبون أرقاماً فلكية لتكاليف العلاج، وأداء معظمهم سيء للغاية".

رغد بدورها دفعت ثمناً غالياً لتجربة مع طبيب أسنان مصري، وعانت الأمرّين من أوجاع ضرسها الذي عالجه لها، فاضطرت للسفر إلى القاهرة، وقضاء عدة أيام لتعالج أسنانها عند طبيب مشهور هناك، لتصليح المشكلات التي تسبب بها طبيب الأسنان المصري في المدينة التي تقطن فيها.
رشا، سورية أخرى مقيمة في المدينة المصرية ذاتها، رفضت الذهاب إلى طبيب أسنان مصري، وتتحمل يومياً آلام ضرسها الملتهب باستخدام المُسكنات بانتظار الحصول على عنوان طبيب ذي سمعة مقبولة في القاهرة. ويعتزم زوجها تكلف عناء وتكاليف السفر على أن تتعرض زوجته لتداعيات أخطاء طبيب غير محترف، كتلك التي سمع عنها كثيراً من سوريين ومصريين هنا.

بالنسبة للأطباء السوريين، لا يختلف المشهد كثيراً في العاصمة المصرية القاهرة، إذ يؤكد المحامي السوري فراس حاج يحيى لـ "اقتصاد" أن الطبيب السوري لا يحق له قانوناً العمل في كافة المحافظات المصرية، ومن يعمل منهم بصورة مخالفة للقانون يعيش تحت سيف ابتزاز صاحب العمل المصري، وكابوس التهديدات بمداهمة مفاجئة من جانب السلطات الصحية المصرية.

يقول حاج يحيى لـ "اقتصاد" أن عقوبة العمل بلا ترخيص للطبيب هي السجن لـ 3 سنوات، ويؤكد بأن أطباء سوريين اعتُقلوا بالفعل خلال الصيف الماضي في القاهرة، بتهمة العمل غير المرخص، وما تزال الدعاوى الخاصة ببعضهم مرفوعة أمام القضاء المصري، وإن كان بعضهم تمكن من السفر خارج مصر.

شروط القانون المصري لنيل ترخيص العمل كطبيب، تعجيزية، وتتطلب معادلة شهاداتهم، وهي عملية تطلب فيها السلطات المصرية أوراقاً ثبوتية كثيرة وتفصيلية، يستحيل في الكثير من الحالات جمعَها، خاصة أن الكثير من السوريين غادروا بلدهم في ظروف غير طبيعية. ويعتقد حاج يحيى أن القضية سياسية، وأن السلطات المصرية لا تريد فعلياً تيسير فرص العمل للأطباء السوريين.

ويستطرد حاج يحيى أن معاناة الأطباء السوريين تنسحب على المحامين والمهندسين وغيرهم من أصحاب الشهادات والكفاءات العلمية، فجميعهم لا يستطيعون العمل قانوناً، ونيل ترخيص العمل يتطلب معادلة الشهادات الجامعية، وشروط الأخيرة تعجيزية، كما في حالة الأطباء. ويبدو، حسب حاج يحيى، أن أرباب المهن والتجارة أوفر حظاً من أصحاب الكفاءات في سوق العمل المصرية.

ويوضح حاج يحيى أنه لا توجد اتفاقيات معاملة بالمثل بين النقابات الخاصة بالأطباء والمحامين والمهندسين في سوريا ومصر، لذلك، فالمصري أيضاً لا يستطيع العمل في سوريا، كطبيب أو محامي أو مهندس، بصورة قانونية.

ويضيف الناشط الحقوقي السوري: إن القانون المصري الراهن، وهو قديم جداً، يمنح الطبيب السوري فرصة مزاولة المهنة لـ 3 شهور فقط، بعدها عليه أن ينقطع عن العمل لسنتين، ومن ثم يمكن أن يطلب ترخيصا للعمل مرة أخرى. ويوضح حاج يحيى أن هذا القانون صِيغ على أساس أن السوريين يأتون مصر زيارة فقط، وبصورة مؤقتة، وهو قانون قديم لا يُراعي التطورات التي رافقت قدوم اللاجئين السوريين إلى مصر في السنوات الأخيرة.

أما عن الحلول، فيعتقد فراس حاج يحيى أن تلك مسؤولية الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، مُمَثلاً في لجنته القانونية، التي عليها أن تعمل على الشق القانوني الخاص بأوضاع معيشة السوريين في بلدان اللجوء، وليس الاكتفاء فقط بالشق السياسي، كما هو حاصل الآن.

ويقرّ حاج يحيى بأن الائتلاف المعارض غير مُعترف به، وأن النقابات التي أسسها "الثوار"، كنقابة المحامين السوريين الأحرار مثلاً، لا تحظى بأي اعتراف نقابي أو رسمي في أي بلدٍ عربي، لذلك فالقضية معقدة نسبياً، لكن رغم ذلك، يعتقد حاج يحيى أن على اللجنة القانونية للائتلاف أن تبحث عن حلول لمشكلات السوريين في هذا المجال مُستغلةً علاقاتها السياسية.

ويقترح حاج يحيى أن يتم العمل على خط نقابة المحامين العرب، ونظيرتها، نقابة الأطباء العرب. وهو أمر يجب أن تقوم عليه مؤسسة سياسية، كالائتلاف، بغية دفع هذه النقابات، التي تمثل العرب جميعاً، للتدخل لدى السلطات المصرية، والنقابات المصرية، لإيجاد حلول لمشكلات شرائح المحامين والأطباء والمهندسين السوريين.

بكل الأحوال، لا يرى د.سليم حلولاً في الأُفق، وهو يعتقد أن المشهد قاتم في بلدان اللجوء بالنسبة له، لذا حسم الطبيب الحموي أمره، ويعتزم العودة إلى بلده، مسلماً أمره وأمر عائلته لله، ففي نهاية المطاف، يبقى أن من "خرج من داره قلّ مقداره".

 

ترك تعليق

التعليق

  • تعليق
    2015-02-25
    الكل يشعر بأن هناك مؤامرة من حكام الدول والمنظمات الدولية ضد الشعب السوري وثورته . ما يعانيه السوريبن المهحرين في الخارج هو حرب عليهم ومؤازرة لبشار وايران انا محامي تجاوزت 57 من العمر بعد ان هدم بشار منزلي ومكتبي وسرق اللصوص كل أثاث منزلي من غرفة النوم وحتى الملعقة وتهجيرنا الى اﻻردن قامت منظمة اﻻمم المتحدة بقطع المساعدات الغذائية عني بحجة انني احمل شهادة جامعية وسافرت زيارة الى السعودية لتأمين العيش ﻻوﻻدي وانا احلم بأن اجد عمل كاشير أو اي عمل حتى لو كان يحتاج لجهد عضلي فصحتي والحمد لله ما زالت بخير ولم يبق لنا إﻻ الله [email protected]