كيف تدهورت مؤشرات الاقتصاد الروسي سريعا؟

تراجع أسعار النفط الذي يمثل نصف عائدات البلاد وديون مؤسساتها الخارجية بالدولار أحد أسباب تراجع مؤشرات الاقتصاد .. ووضع ضوابط على تحركات العملة الأجنبية الخيار الأخير لحمايتها .. ومنهج موسكو الحالي يعزلها

* * *

"أمر غامض" هكذا تصف الأوساط الاقتصادية الانتكاسة السريعة التي شهدتها المؤشرات الاقتصادية الروسية خلال الفترة الماضية من تدهور سعر عملتها الروبل وتراجع سوقها المالي، رغم امتلاك البلاد التي يقطنها نحو 143.7 مليون نسمة نحو 418.88 مليار دولار احتياطي من العملات الأجنبية و 80 مليار برميل من الاحتياطيات النفطية المؤكدة.

وفقد الروبل نحو 40% من قيمته أمام الدولار منذ مطلع العام الجاري، وبنفس النسبة تقريبا تراجعت أسواق المال الروسية منذ منتصف يوليو/ تموز الماضي.

وتحاول دراسة أوروبية حديثة فك الطلاسم التي تخيم على الاقتصاد الروسي، موضحة أن التطورات العالمية أضرت بالاقتصاد الروسي كثيرا، وخاصة انخفاض سعر برميل النفط عالميا من 115دولارا في يونيو/ حزيران الماضي إلى نحو 60 دولارا حاليا في أعقاب تباطؤ معدلات النمو في الأسواق الناشئة ووفرة المعروض بفضل ثورة النفط الصخري في الولايات المتحدة.

وفي عام 2012 صدرت روسيا ما يقرب من 7.4 مليون برميل/ يوميا من النفط، 79٪ منها إلى الدول الأوروبية ونحو 18٪ إلى آسيا.

ويكبد تراجع سعر برميل النفط دولارا واحدا مع بقاء الصادرات النفطية الروسية على معدلاتها الحالية، الخزانة الروسية خسائر فادحة تصل إلى 7.4 مليون دولار يوميا، لترتفع الخسارة إلى 2.7 مليار دولار في العام، وبعدما هوت أسعار النفط بنحو 42 دولارا منذ يونيو/ حزيران الماضي، تصل الخسارة إلى نحو 113.4 مليار دولار في السنة، وفق إحصاء أجرته وكالة الأناضول.

ووصل العجز بميزانية روسيا إلى 310 مليارات روبل (9.2 مليار دولار)، خلال العام الماضي الذي وصل متوسط سعر خام برنت خلاله إلي 108.7 دولار للبرميل، وهو ما يمثل 0.5% من الناتج المحلي الإجمالي.

وقال التقرير الصادر عن معهد الاتحاد الأوروبي للدراسات الأمنية في تقرير حصلت وكالة الأناضول على نسخة منه إنه بالنظر إلى أن النفط يمثل نصف عائدات روسيا الاتحادية وثلثي إجمالي صادراتها، فإن تراجع أسعاره له تأثير خطير على خزائن موسكو، موضحا أنه لا يمكن تعويضها عن طريق بيع موارد الطاقة الأخرى مثل الغاز، حيث أن 80% من عائدات روسيا الهيدروكربونية تأتي من النفط.

وأثار ضم شبه جزيرة القرم التي كانت جزءا من أوكرانيا إلى روسيا في مارس/ آذار الماضي وما ترتب علها من فرض العقوبات من جانب الغرب على موسكو موجة جديدة من تدفقات رأس المال من روسيا إلى الخارج، والتي يقدرها البنك المركزي الروسي بنحو 130 مليار دولار في عام 2014، مقارنة بـ 61 مليار دولار العام الماضي.

وتأسس معهد الاتحاد الأوروبي للدراسات الأمنية في يناير/ كانون الثاني 2002، بغرض تحليل القضايا الخارجية والأمن والسياسة الدفاعية في المنطقة، ويتخذ من العاصمة الفرنسية باريس مقرا له.

وأدى انخفاض أسعار النفط وهروب رؤوس الأموال إلى الهبوط الحاد في قيمة الروبل، الذي فقد 40٪ منذ مطلع العام الجاري كما تراجعت البورصة الروسية بنسبة 40٪ منذ منتصف يوليو/ تموز الماضي.

ويضيف التقرير أن قطاعات الشركات والخدمات المصرفية الروسية تعتمد بشكل كبير على التمويل من أسواق رأس المال الدولية كما أن ديون الشركات الروسية مقومة بالدولار الأمريكي.

الديون الدولارية للشركات الروسية

ويوضح التقرير أن انخفاض قيمة الروبل يكلف الشركات الروسية التي تحقق إيراداتها بالروبل ولكنه تحتاج لسداد الديون بالدولار والعملات الأجنبية الأخرى.

ويكشف معهد الاتحاد الأوروبي للدراسات الأمنية في تقريره، أن الديون والفوائد المستحقة على الشركات الروسية خلال الشهر الجاري بلغت 34 مليار دولار، وفي عام 2015، يتعين عليها تسديد 106 مليارات دولار.

وبعد فرض العقوبات والاضطرابات الجيوسياسية الواسعة، أصبح مستحيلا بالنسبة للشركات الروسية إعادة تمويل الديون في الاسواق الدولية ( ليس فقط المدرجة على قائمة العقوبات) وبالتالي تطلب المساعدة من الحكومة.

وتقلل العقوبات المالية من توافر رأس المال في روسيا، مما يؤدي إلى رفع أسعار الفائدة، ونتيجة لنقص رأس المال، ارتفع سعر الإقراض بين البنوك الروسية لمدة ثلاثة أشهر روسيا من 6.04٪ في مارس/ آذار إلى 10.65% في مطلع الشهر الجاري، الأمر الذي أسفر عن توقف العديد من المشاريع الاستثمارية ودخول الشركات الروسية في حالة من الفوضى.

وفي هذا السياق، جرى إلغاء مشروع خط ساوث ستريم وتعطل عدة مشاريع لتطوير حقول النفط المشتركة مع شركات مثل اكسون ووشتات أويل، وشركة شل وايني.

وفي مطلع الشهر الجاري، ألغت شركة جازبروم الروسية مشروع إنشاء خط أنابيب ساوث ستريم لتزويد جنوب أوروبا بالغاز، وكان من المفترض أن يمر عبر البحر الأسود إلى جنوب أوروبا مرورا ببلغاريا وكان من المزمع أن يبدأ نقل الغاز العام القادم وتبلغ تكلفته 40 مليار دولار.

وفرض الغرب عقوبات اقتصادية على روسيا بسبب الصراع في أوكرانيا وتسعى أوروبا لخفض اعتمادها على إمدادات الغاز الروسية.

وخفضت وزارة التنمية الاقتصادية الروسية مؤخرا توقعاتها لنمو الاقتصاد إلى 0.5% لعام 2014 وتتوقع أن ينزلق الى الركود في عام 2015 بانكماش 0.8%.

وفي الشهر الماضي، حاولت وزارة المالية الروسية حساب الآثار العامة من الانخفاض في أسعار النفط، وتراجع قيمة الروبل والعقوبات الغربية على اقتصاد البلاد، وقدرت الخسائر ما بين 130 و 140 مليار دولار سنويا ( 40 مليار دولار سنويا في ربع سنة) بسبب العقوبات، وفقا لتقرير معهد الاتحاد الأوروبي للدراسات الأمنية.

ويذكر التقرير أنه في حين أن الوضع الاقتصادي في روسيا يبدو صعبا، فإن الانكماش الحالي يبدو أقل مأساوية مقارنة بالركود في عام 2009، على الرغم من الحالة الراهنة قد تستغرق وقتا طويلا، ويبقى الوضع المالي للحكومة الروسية إيجابيا نسبيا.

وترى مجلة "الإيكونوميست" البريطانية أن أحد الأسباب في الوضع الاقتصادي الروسي حاليا يكمن في الظروف المالية التي تمر بها شركات الطاقة العملاقة التي تسيطر عليها الدولة، مثل غازبروم وروسنفت والتي يراها المتفائلون بأنهم مصدر موثوق به لجلب الدولارات.

ولكن روسنفت، عليها ديون خارجية مستحق عليها فوائد أو حان تسديدها، ففي يوم 12 من الشهر الجاري، أصدرت الشركة سندات مقومة بالروبل بقيمة 11 مليار دولار بعائد أقل من السندات الحكومية التي طرحتها في نفس اليوم.

وتضيف المجلة أن الذعر من تدهور الاقتصاد الروسي وصل إلى مرحلة أخرى إلى أصول أخرى، حيث أن أسهم الشركات التي لها تعاملات على روسيا بما في ذلك البنوك الفرنسية والنمساوية تخسر كثيرا من قيمتها.

الدولار ووقف نزيف الروبل

وتقول "الإيكونمست" إنه مع ارتفاع أسعار الفائدة، أصبح بيع النقد الأجنبي غير فعال، فتحتاج روسيا إلى خيارات أخرى لوقف الهبوط في قيمة الروبل، أحدها محاولة التفاوض لتمديد أجل سداد السندات المستحقة على أمل تقليص الطلب على الدولار.

وثمة خيار أخر يلقى معارضة من جانب البنك المركزي ووزارة المالية بروسيا، ويتمثل في وضع ضوابط على حركة رأس المال، فالكرملين قد يحد من قدرة الناس على تحويل الروبل إلى عملة صعبة وإخراجه من البلاد.

وتضيف المجلة، حتى لو تمكنت روسيا من فرض ضوابط على رأس المال، سيكون عام 2015 قاتما، فقبل الاضطراب خلال الأسبوع الماضي كان معدل التضخم 9.1٪، وارتفاع الأسعار الزاحف تم استبداله حاليا بتصرف مشؤوم، حيث بدأ أصحاب المتاجر الروسية في إعادة تسعير بضائعهم يوميا.

وقبل أقل من أسبوعين كان الدولار يعادل 52 روبلا، في يوم 16 من الشهر الجاري ، وصلت العملة الأمريكية ما بين 70 و 80 روبلا، ويرى أصحاب المحلات أن الأمر يتطلب زيادة الأسعار 50 % لتعويض تراجع الروبل أمام الدولار، وبالتالي تتراجع قيمة أجور المواطنين الروس على نطاق واسع من حيث القيمة الحقيقية.

وتضيف المجلة، وهذا يفسر لماذا يفقد الروس الثقة في عملتهم، ففي شوارع موسكو، يدور الحديث عن الأزمة الاقتصادية، وتفرض البنوك الحكومية الروسية قيودا على كمية الدولارات واليورو التي تبيعها، وفي حال هدأ الطلب وفرض حظر على استخدام الدولار، تواجه البنوك الروسية مشاكل هائلة، فالاقتصاد المنكمش، وانخفاض الدخل بسبب التضخم وارتفاع أسعار الفائدة بشكل هائل، سيؤدي إلى رفع معدل التخلف عن سداد الديون المستحقة.

وتقول مجلة "بيزنيس ويك" الأمريكية: "البنك المركزي الروسي يمكن أن يبيع الاحتياطيات ويرفع سعر الفائدة، ولكن لا يمكنه طباعة الدولارات".

وذكرت صحيفة "فاينشال تايمز" أن انخفاض أسعار النفط في الأسابيع الأخيرة رفع حدة الألم بالنسبة للاقتصاد الروسي والذي أصبح فجأة عند نقطة والتي توقع الخبراء الذين وضعوا العقوبات الغربية قد يستغرق سنوات للوصول إليها، إذا كان يمكن الوصول إليها أساسا.

وتضيف أن الخيارات الفورية أمام السلطات الروسية لوقف تراجع الروبل تتمثل في "رفع أسعار الفائدة"، و"تدخل البنك في سوق الصرف" أو "وضع ضوابط على تحركات العملة الأجنبية"، موضحة أن أول خيارين ثبت فشلهما، أما الخيار الثالث لا يحظى بأي شعبية وخطوة رجعية من جانب الحكومة التي عملت بجد لاستعادة الثقة في الروبل بعد الاضطرابات إبان فترة التسعينات من القرن الماضي.

وقالت إن زعيم الكرملين فلاديمير بوتين، يواجه خيارا استراتيجيا صارخا، حيث يمكنه التراجع عن عدوانه في شرق أوكرانيا، وحال الامتثال الكامل بوقف إطلاق النار الذي جرى التوصل إليه في سبتمبر/ أيلول الماضي، فإن الغرب سيرفع العقوبات المصرفية والعقوبات المفروضة على مشروعات الطاقة الأخيرة.

وتضيف: في حين أن الأضرار الناجمة عن انخفاض أسعار النفط ستبقى، فإن تقليص العقوبات الغربية على روسيا سيعمل على استعادة الثقة تدريجيا في السوق الروسي.

اقتصاد الحرب

أما البديل، عن عودة الثقة للاقتصاد الروسي أمام الكرملين، هو الاستمرار على دربه الحالي، وهذا من شأنه أن تصبح روسيا أكثر قمعية على نحو متزايد، صاحبة اقتصاد حرب يواجه العزلة، وربما يندفع بوتين نحو المغامرات العسكرية ليكسب تأييد الرأي العام على المدى القصير.

ترك تعليق

التعليق