لغز مفقودي رحلة الاسكندرية...مأساة لم تُروَ آخر فصولها بعد

رغم مضي خمسة شهور على فقدانهم، ما يزال ذووهم يأملون في إيجاد أي بارقة أمل تحسم مصيرهم، وتنهي المعاناة النفسية والقانونية لأقاربهم.

نساء لا يعرفن إن كن أرامل، أم مازلن على ذمة رجل حيّ، وأمهات لا يعرفن إن كن ثكالى أم هو اختبار مؤقت لصبرهن، وأطفال لا يعلمون إن كانوا في عداد الأيتام، أم ما يزال القدر يخبئ لهم فرصة عودة الأب المفقود.

*تجاهل وإهمال من مختلف الجهات المعنية

مفقودو رحلة الاسكندرية بتاريخ 6/9/2014، ما يزالون لغزاً عصياً على الحل حتى اليوم. مأساة إنسانية تعرض لها مجموعة من اللاجئين من عدة جنسيات عربية، تُقدر أعدادهم بـ 563 مهاجراً، لم ينجُ منهم إلا 11 شخصاً، فيما البقية ما يزالوا رهن حسم مصيرهم، وسط شكوك وإشاعات بأنهم أحياء يرزقون، مرةً في معسكر إيطالي للاعتقال، ومرة أخرى في معسكر مصري.

ومما زاد من تعقيدات قصة مفقودي رحلة الاسكندرية أن فيهم 150 فلسطينياً، معظمهم من غزة، الأمر الذي جعل ذوي المفقودين يستشعرون تحفظاً من جانب سلطات بعض الدول، حيال ملفهم.

بين المفقودين 130 سورياً، يعيش أهلهم على بارقة أمل، تبرق من هنا أو هناك، في واحدة من أكثر قصص غرق المهاجرين إهمالاً وتجاهلاً من مختلف السلطات المعنية، سواء أكانت المصرية، أو اليونانية، أو الإيطالية، أو حتى الأممية.

*كيف بدأت القصة؟

بدأت الرحلة "اللغز" بتاريخ 6/9/2014، من شواطئ "جمصة"، في دمياط – مصر، في منتصف الليل عبر قوارب صيد كان من المقرر أن تبدأ رحلة هجرة غير شرعية عبر المتوسط، تصل بـ 563 مهاجراً إلى شواطئ إيطاليا. لكن خلافاً بين المهربين أدى إلى حادث إغراق متعمد، حيث صُدم مركب بآخر عمداً، مما أدى إلى فقدان كل من كان على أحد المركبين، باستثناء 11 شخصاً، نجوا من الغرق بعد فترة من السباحة، لتنقذهم سفينة يونانية. ثم ظهرت لاحقاً 3 جثث فقط من نفس الرحلة على الشواطئ الليبية، فيما بقي مصير البقية مجهولاً.

ولأن حادثة الغرق حدثت في المياه الدولية، تجنبت جميع الدول الحادثة التي تعرضت لإهمال غير مسبوق، كان نتيجته أن أكثر من 500 شخص، مجهولي المصير حتى اليوم.

*حادث "إغراق" مُتعمد

ومنذ حادثة الغرق، اطلع ذوو المفقودين على سيلٍ من الشائعات والمعطيات التي جعلتهم في حيرة حيال مصير مفقوديهم. وتواصل بعض ذوي المفقودين مع مسؤولي اللجنة القانونية للائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية في القاهرة، كما تواصلوا مع مفوضية شؤون اللاجئين في الأمم المتحدة، ومع الصليب الأحمر، لكن أي جوابٍ حاسمٍ بخصوص مصير مفقوديهم لم يظهر حتى الساعة.

أبو محمد، والد أحد المفقودين، تحدث لـ "اقتصاد"، وأخبرنا عن معاناته طوال شهر وسط سيل الشائعات والقصص المختلفة حول مصير ابنه. وأعلمنا بأنه تأكد عبر أحد المتعاملين مع المهربين بأن حادث غرق المركب الذي أقل ابنه، كان مُدبراً، بسبب الخلاف بين مجموعتين من المهربين.

أبو محمد كان أحد من راجع مفوضية شؤون اللاجئين، الذين حولوا الملف إلى الصليب الأحمر، لكن الأخير لم يقدم أي مفيد بهذا الخصوص.

*السلطات المصرية لم تحرك ساكناً!

وأضاف أبو محمد بأن ذوي المفقودين المصريين الذين كانوا على نفس المركب، أعدوا محاضر لدى الشرطة المصرية ضد المهربين المسؤولين عن حادثة الغرق، لكن الجهات المصرية المختصة لم تحرك ساكناً، مما دفعهم إلى الاعتصام أمام مكتب النائب العام بالقاهرة، منذ شهر تقريباً، وقد وعدهم أحد موظفي مكتب النائب العام المصري بأنه سيتولى الملف بنفسه، وطلب منهم مراجعته بعد أسبوع، لكن المراجعات التي أجراها ذوو المفقودين لمكتب النائب العام في الأسابيع الثلاثة التالية لم تُكلل بأي خبرٍ مفيدٍ حتى الآن.
ويعتقد أبو محمد أنه يجب تسليط الضوء إعلامياً على قضيتهم بكثافة، وطرق كل أبواب الإعلام، خاصة الغربي.

وأشار أبو محمد إلى حالة غرق لمركب مهاجرين فُقد خلاله العشرات عام 2013، وتجاهلته السلطات الإيطالية، لكن تدخل صحفي إيطالي، وملاحقته للموضوع، وتسليط الضوء عليه إعلامياً، أجبر السلطات الإيطالية على التحرك، ليُكشف لاحقاً أن العشرات من المفقودين كانوا محتجزين في إحدى المعسكرات الإيطالية.

ولفت أبو محمد إلى أن بعض وسائل الإعلام المصرية تناولت قصة مفقودي رحلة الاسكندرية، لكن ذلك لم يكن كافياً لدفع السلطات المصرية إلى التحرك بجدية.

*أسماء ناجين حُذفت لاحقاً!

بدورها، آلاء، واحدة من ذوي المفقودين السوريين، تحدثت أيضاً لـ"اقتصاد"، وأعلمتنا بأنه في الأيام القليلة التي تلت حادثة الغرق، والتي عرفوا بها من وسائل الإعلام، تداولت بعض صفحات "فيسبوك"، معنية باللاجئين والمهاجرين، أسماء عدد من المفقودين، معلنةً أنهم بصحة جيدة في إيطاليا، لكن لاحقاً تم حذف هذه الأسماء من التداول، وحينما حاولت آلاء، وعدد من ذوي المفقودين، التواصل مع مشرفي تلك الصفحات لمعرفة مصدر معلوماتهم، لم يعطهم أحد معلومة مفيدة، إذ كان الجميع قد نقل الأسماء عن مصادر أخرى في "فيسبوك"، ولم تتمكن آلاء من معرفة المصدر الرئيس للمعلومات.

*سيل من الشائعات

ووسط سيل الشائعات التي أحاطت بتلك القضية، واحدة تنقل عن جنرال إيطالي أن هناك محتجزين سوريين وفلسطينيين في إحدى المعسكرات الإيطالية، لكن الجنرال رفض إعطاء أية أسماء نظراً لحساسية الموضوع، في إشارة إلى وجود فلسطينيين من غزة، اعتبرتهم السلطات الإيطالية، على ما يبدو، في عِداد "الإرهابيين".

شائعة أخرى لا تقل درامية عن السابقة، مفادها أن محتجزين سوريين وفلسطينيين من إحدى رحلات الهجرة غير الشرعية موجودين في معسكر للجيش المصري في الاسماعيلية. شائعة رفض الصليب الأحمر البناء عليها للقيام بأي تحرك، ولم يتمكن ذوو المفقودين من التحقق من مدى صحتها، رغم كل محاولاتهم، وذلك رغم ضعف مصداقيتها.

أبو محمد أخبر "اقتصاد" أن المركب غرق في المياه الدولية قريباً من شواطئ إيطاليا، بعد رحلة في البحر دامت 4 أيام، لذلك يعتقد أبو محمد أن المفقودين، في حال كانوا أحياء، لا يمكن أن يكونوا محتجزين في مصر.

*الحل في لجنة تقصي خاصة

بدوره، يعتقد فراس الحاج يحيى، مسؤول قسم حقوق الإنسان في اللجنة القانونية للائتلاف بالقاهرة، أن الحل لهذه المعضلة يكمن في تشكيل لجنة تقصي حقائق للكشف عن مصير المفقودين.

وأوضح الحاج يحيى أن نداء استغاثة تلقاه الصليب الأحمر من المركب الغارق يوم 10/9/2014، لكن أحداً لم يبحث عن المفقودين، وتعرضت قضيتهم لإهمال كبير.

ويشير الحاج يحيى إلى قصة مشابهة حدثت في العام 2013، حينما غرق مركب مهاجرين على متنه تونسيون، فتم تشكيل لجنة مشتركة تونسية – إيطالية، للكشف عن مصيرهم، وتحديد الوضع القانوني لذويهم، وتعويض البعض منهم.

وبغياب أي دور لحكومة نظام الأسد على هذا الصعيد، ولأن حادثة الغرق تمت في المياه الدولية، يعتقد الحاج يحيى أن الحل في تكثيف جهود التواصل مع الجهات الإقليمية والدولية والضغط عليها إنسانياً وإعلامياً بغية حثها على تشكيل لجنة تقصي حقائق تطوي هذا الملف، وتضع حداً للمعاناة النفسية والقانونية لذوي المفقودين.

*جهود قانونية الائتلاف

وفي حديثه مع "اقتصاد"، أوضح الحاج يحيى الخطوات التي قامت بها اللجنة القانونية للائتلاف في القاهرة: "قام عدد من الإخوة من أسر المفقودين بالتواصل مع اللجنة القانونية للائتلاف ومع مكتب الائتلاف بالقاهرة طالبين متابعة ملف ذويهم، وبالفعل قمنا بإعداد الملف بشكل قانوني وقام الأستاذ هيثم المالح بعقد اجتماع مع اللجنة الدولية للصليب الأحمر بخصوص المفقودين، كما قمنا بمراسلة معظم المنظمات الحقوقية والدولية المعنية وجامعة الدول العربية مطالبين بتشكيل لجنة خاصة بالتحقيق بمجريات هذه القضية، ومن خلال عملنا في قسم حقوق الإنسان ومكتب الائتلاف بالقاهرة، نتواصل مع أهالي المفقودين بشكل مستمر وشبه يومي ومع ممثلي أسر المفقودين من الجنسيات العربية الأخرى، وذلك لتوحيد الجهود لوضع نهاية لهذه المأساة الانسانية".

وأضاف الحاج يحيى: "وسنقوم بالتعاون مع أسر المفقودين بمواصلة المطالبة بتشكيل لجنة خاصة عربية أو دولية مهمتها الكشف عن مصير هؤلاء المفقودين والتواصل مع أسرهم ومع الناجين من الرحلة وجمع كافة المعلومات بالتعاون مع الدول المعنية بهذه القضية، لتنتهي اللجنة إلى وضع تقرير يوضح مصير هؤلاء المفقودين بما ينهي المعاناة النفسية والقانونية اليومية لعوائل المفقودين ويضع حداً لهذه المأساة الانسانية التي تضاف إلى مآسي الشعب السوري".

*الإعلام..باب من أبواب الأمل

وبذلك، يبدو أنه ليس أمام ذوي مفقودي رحلة الاسكندرية (6/9)، إلا المزيد من الانتظار، وآمالهم معلقة على جهود اللجنة القانونية للائتلاف، دون أن يكلوا أو يملوا من التحرك في كل الاتجاهات الممكنة، وأبرزها الإعلام، لتسليط الضوء على قضيتهم، وفي سبيل ذلك، يعتزم ذوو المفقودين، كما أخبرتنا آلاء، إطلاق حملة إعلامية لتكثيف الاهتمام بقضيتهم، علّ ذلك يصل إلى المسؤولين في الدول والجهات الدولية المعنية، فيفتح أفقاً لوضع حدٍ نهائي لمأساتهم.

ترك تعليق

التعليق