الثورة، المعارضة، المال

 قبل نحو سنتين، كنت في منزل الدكتور هيثم مناع في باريس، وكان يحدثني عن فساد بعض المعارضين، وعن تلقيهم أموالا من دول وجهات خارجية من أجل التأثير في مواقفهم.. ولما لم أصدق كلامه، نهض إلى مكتبه وأخرج منه مجموعة من الأوراق، كانت عبارة عن إيصالات بأسماء شخصيات مشهورة في المعارضة، تثبت تلقيهم أموالا من دول وجهات سياسية عديدة..

لازالت صورة تلك الأوراق والايصالات، عالقة في ذهني، لكن التساؤل الذي خطر لي للوهلة الأولى: من الذي أوصل تلك الوثائق لهيثم مناع..؟، وما مصلحته بذلك ..؟!...طرحت عليه هذا التساؤل، فتوارى خلف ابتسامة خبيثة، ثم قال: من أعطاهم هو من أرسلها لي..!، ذكرني هذا الكلام، بلحظة اعتقالي في بداية الثورة، عندما واجهني وقتها المجرم جميل حسن بقائمة الاتهام، وكانت عبارة عن معلومات دقيقة لمحادثة جرت بيني وبين إحدى المعارضات النساء عبر جهاز الثريا.. وعندما قلت له كيف عرفتم بمضمون الاتصال، ومكالمة الثريا لا يمكن معرفة ما ورد فيها.. قال لي نفس العبارة: من اتصلت بها وتظن أنها من المعارضة هي من أعطتنا هذه المعلومات.

لقد واجه ثورتنا منذ البداية خطران، لم يكن بالإمكان تجاوزهما برأيي، الأول هو المال الذي أفسدها، والثاني، هو خطر العملاء والخونة .. غير أن خطر المال يبقى هو الأكثر تأثيرا، كون العملاء يمكن تجنبهم أو ينتهي مفعولهم بمرور الزمن، لكن المال من الصعب مقاومة إغرائه ..

 إذاً ما الذي فعله المال بثورتنا حتى الآن ..؟ وما هو الفساد المالي الذي يجري الحديث عنه، لدى المعارضة، كل فترة..؟

 في الشهر التاسع من عام 2011، كنت في منزلي في أحد أرياف محافظة درعا، عندما سمعت شجارا وصراخا، بعد منتصف الليل، بين رجلين في الشارع... خرجت كغيري من الجيران إلى حيث المشاجرة.. كان أحدهما يمسك برقبة الآخر ويصرخ في وجهه: أريد حصتي من المال الذي وصلكم.. !، بعد التفريق بينهما، عرفنا أن القصة وما فيها، أن أحد أبناء المنطقة أرسل مبلغ 100 ألف ليرة سورية من أجل توزيعها على من تضرر من الثوار نتيجة تعرضه للاعتقال لعدة أشهر، الأمر الذي لم يستطع معه مستلم المال إرضاء أو كفاية الجميع. لقد تركت هذه الحادثة في نفسي أثرا كبيرا، كون الشخصان اللذان كانا يتقاتلان، هما صديقين ومن خيرة الثوار على الأرض.. لقد عرفت وقتها المعنى الحقيقي لمقولة: إذا أردت أن تفسد ثورة، أغرقها بالمال.. لذلك، أعتقد أن من أطلق هذه المقولة لم يكن يقصد بها المال الذي يتقاضاه المعارضون السياسيون، وإنما كان يقصد به هذا المال تحديدا، فهو أشد خطرا من الأول ...

وفي مثال الثورة السورية فإن المال الإغاثي لعب دورا كبيرا في التأثير في اتجاهات الناس وخصوصا عندما انتقل إلى الجيش الحر، حيث أصبح مال ولاءات بامتياز... على أي حال؟ لم يكن بالإمكان تجنب هذا المال في الثورة السورية، بعدما اتبع النظام سياسة ضرب الحياة الاقتصادية في المناطق الثائرة.. وبرأيي فإن العيب لم يكن في الثوار الذين قبلوا المساعدة المالية في البداية، وإنما العيب في من قدمها لهم ووضع شروطا مقابل تقديمها.. هؤلاء من يجب فضح أهدافهم ومساعيهم.. وفيما يخص قيادات المعارضة التي يتم الكشف يوميا عن ما تتقاضاه من رواتب مقابل عملها في المعارضة، فلا يمكن اعتبار ذلك فسادا ماليا وإنما هو فساد أخلاقي.

 وبالعودة إلى السؤال في البداية، عن ماهية الفساد المالي في المعارضة، فلا أحد يستطيع أن ينكر أن هناك فسادا، لكن الخلاف في توصيف هذا الفساد ومدى تأثيره .. لقد وصل الأمر ببعضهم، إلى حد تحميل عذابات الشعب السوري التي يعانيها اليوم الى هذا الفساد، وهذا غير صحيح أو على الأقل فيه الكثير من المبالغة، لأن مأساة المهجرين السوريين في الخارج والمحاصرين في الداخل، تفوق إمكانيات دول بأكملها.

 أعتقد أن حجم الألم، هو الذي يحركنا ويدفعنا للبحث عن ملفات الإثارة هذه، وكل ظننا أننا نجيب عن سؤال: لماذا تأخر انتصار الثورة السورية حتى الآن ..؟، لكن على أرض الواقع، فقد أجابت أمريكا خلال اليومين الماضيين عن هذا السؤال بجدارة. صحيح أن الثورة مستمرة لكن الأصح أن أمريكا هي التي تمنع سقوط النظام حتى الآن. هل تريدون أوضح من هذا المشهد القديم الجديد في الثورة السورية..؟، وكما يقول ثوار "فيس بوك" ... ماذا نحن فاعلون..؟!

ترك تعليق

التعليق