لماذا لم تهرب البنوك الخاصة من سوريا ..؟

بعد مرور أكثر من أربع سنوات على الثورة السورية وما تعرض له اقتصاد النظام طوال هذه المدة من تدمير، كثيرون يتساءلون.. ما الذي تفعله البنوك الخاصة في سوريا حتى الآن ..؟، وهل تبقى لدى السوريين ما يودعونه في تلك البنوك ..؟، ما هي العوامل التي تجعل هذه البنوك صامدة ولم تعلن إفلاسها حتى الآن، رغم كل ما تردد عن خسائر تعرضت لها جراء تعثر المقترضين عن سداد قروضهم، والتي
تجاوزت بحسب بيانات رسمية أكثر من 30 مليار ليرة سورية لأسعار ما قبل عام 2011 ...؟

في البداية لا بد أن نلفت الانتباه لأمر هام، أن المتابع للهوية الشخصية والاعتبارية لأصحاب الاستثمارات الكبيرة في سوريا، سوف يكتشف أنها عبارة عن امتيازات، كانت تمنح لأشخاص وهيئات بعينها، كمكافأة لها على خدمة معينة أو انتظاراً منها لفائدة أخرى، كما حدث مع نجيب ميقاتي الذي تم منحه مشغل الخليوي "إم تي إن"، ثم تم اجباره على المساهمة بتلفزيون الدنيا بحصة هي الأكبر بين جميع الشركاء السوريين الخمسة الآخرين. لكن ميقاتي الذي شرب المقلب وأحس به، طلب عدم الإفصاح عن اسمه كمالك لتلفزيون الدنيا وهو أمر لم يكن معروفاً على نطاق واسع.

أيضاً هناك ملاحظة هامة لا بد من لفت الانتباه إليها، أن جميع مشاريع الاستثمار الكبيرة تمت بعد حدثين كبيرين ..الأول هو الغزو الأمريكي للعراق في العام 2003 والثاني هو اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري في العام 2005 ... واضطرار سوريا للانسحاب من لبنان .. وفيما يخص المصارف الخاصة، فإن مرسوم إنشائها صدر في العام 2001 غير أن أول مصرف خاص يتم افتتاحه على الأرض السورية ويمارس عمله بشكل فعلي كان في العام 2006....أما علاقة هذين الحدثين بمشاريع الاستثمار فيمكن تلخيصها على الشكل التالي وبعجالة ... لقد حاول النظام أن يزج برجال الأعمال الشوام والحماصنة في التعامل مع العراق من خلال مشروع النفط مقابل الغذاء، ظناً منه أن هؤلاء التجار سوف يخسرون كافة أموالهم في هذا المشروع. كما حدث مع روسيا في التسعينيات عندما رفضت تسديد مستحقات تجار حلب وطلبت منهم السداد من ديونها على الحكومة السورية.. لذلك لم يسجل نشاط ملحوظ لرجال الأعمال الحلبية في مشروع النفط مقابل الغذاء العراقي...

أما الذي حدث في العراق أن التجار الشوام والحماصنة أثْروا كثيراً من هذا المشروع، بل وعقدوا علاقات تجارية واستثمارية مهمة مع رجال أعمال عراقيين كانت ترعب النظام بكل معنى الكلمة. كون أغلب هذه العلاقات كانت مع رجال أعمال من الطائفة السنية.. ولعل الكثيرين يتذكرون استيلاء النظام على الجامعة السورية الخاصة لصاحبها العراقي عبد المجيد السعدون، السني، وكيف تم اتهامه بالعمالة لإسرائيل ثم تم اعتقاله تحت تهم لها علاقة بالفساد ..!!

لقد كان النظام يسعى لأن تكون الأموال التي حصل عليها التجار الشوام والحماصنة من مشروع النفط مقابل الغذاء العراقي تحت نظره وسيطرته، لذلك بدأ بالتضييق عليهم من أجل المساهمة في مشاريع الاستثمار التي كان يقودها ويوجهها رامي مخلوف. أما رجال الأعمال الحلبية الذين كانوا تقريباً خارج الطوق الحكومي بسبب نشاطهم الخارجي الفعال، فقد جرى التضييق عليهم بطرق مختلفة ..

لقد قال لي مرة أحد رجال الأعمال الحلبية المعروفين، في العام 2010، إن رامي مخلوف اتصل به في العام 2006 وطلب منه المساهمة معه في شركة الشام للاستثمارات والتي ضمت أكثر من 80 رجل أعمال من دمشق وحلب وحمص .. فقال: "أرسلت له 20 مليون دولار وأخبرني أن مساهمتي معهم تقدر بـ 10 بالمئة".
وتابع: "لكني لم أعرف مصير هذا المال حتى الآن ولم أتقاض أي أرباح، وحتى لم يقل لي أحد عن المشاريع التي يستثمرون بها" ...ثم قال أخيراً: "بصراحة لا أريد منهم شيئاً .. المهم أن يتركوني بحالي ...!!".

أما فيما يخص الموضوع اللبناني فهي كانت وسيلة ضغط كبيرة مارسها النظام لسحب الأموال السورية الموجودة في البنوك اللبنانية والتي كانت تقدر بأكثر من 40 مليار دولار. لذلك كانت حجة النظام لدى إطلاق فكرة البنوك الخاصة أن هناك الكثير من السوريين يودعون أموالهم في لبنان.. فلماذا لا نجلب هذه البنوك إلى السوق المحلية، ونوظف أموال السوريين داخل بلدهم ..؟ والغريب أن هذه الفكرة لم تظهر إلا بعد انسحاب النظام من لبنان بينما الأموال السورية موجودة هناك منذ عشرات السنين ... !!

وهكذا انطلقت المصارف الخاصة للعمل في السوق السورية في منتصف العام 2005 وبشكل فعلي في العام 2007 بعد صدور القانون رقم 8 الذي ألغى العمل بمرسوم الاستثمار رقم 10 وتعديلاته لعام 1991، ووضع أسساً جديدة للاستثمار تعطي تسهيلات للمستثمرين غير السوريين للتملك وحق التأمين على استثماراتهم في مؤسسات خارجية، وليس ضمن مؤسسات الدولة السورية كما كان يشترط المرسوم الأول..وكان لافتاً منذ البداية كيف أن هذه البنوك والتي وصل عددها إلى 14 مصرفاً، استطاعت أن تجتذب المودعين، حتى وصل حجم الإيداعات في بداية العام 2011 الى أكثر من 45 مليار دولار. غير أن اللافت أكثر هو حجم التمويلات الاستثمارية والتشغيلية لهذه البنوك في السوق الداخلية، والتي لم تتجاوز الـمليار دولار. وهو ما كان دائماً يثير التساؤل عن مصدر الأرباح التي تعلن عنها والتي كانت كبيرة في جميع المرات...!!، فأين كانت تذهب أموال السوريين ..؟، ومن أين كانت تحصل هذه المصارف على الأرباح وخصوصاً أنه كان مطلوباً منها أن تودع ما يعادل رأسمالها في المصرف المركزي السوري كضمان للمودعين في حال إفلاسها ..؟

بعد انطلاق الثورة السورية بعشرة أيام في العام 2011، بدأت حملة سحوبات غير طبيعية لأموال المودعين في البنوك الخاصة. حيث أعلن عبد القادر الدويك مدير عام بنك سوريا الدولي الاسلامي، والذي يملك سليمان معروف حصة كبيرة فيه، أنه تم سحب ما يعادل المليار دولار .. وكان هذا الإعلان بمثابة ابتزاز للنظام السوري والتهديد بإعلان الإفلاس إذا لم تنصع الحكومة السورية لمطالبهم.. وكانت أبرز مطالب هذه البنوك تتلخص بأمرين، الأول هو سحب إيداعاتها لدى المصرف المركزي والتي كانت تعادل رأس المال، والثاني هو حرية نقل الأموال للخارج، بحجة أن السوق السورية لا تزال غير مهيئة للاستثمار..وكان ذلك قبل الثورة السورية.. فكيف هو الأمر مع انطلاق الثورة...؟!

ومع توالي العقوبات الاقتصادية على النظام السوري ورجالاته، بدأ النظام يدرك أن معاداة هذه المصارف ليست في صالحه، بل على العكس، لقد حانت الفرصة للإفادة من هذه المصارف، كونها مصارف دولية وخارج إطار العقوبات، ولديها حرية في تحريك الأموال دون الخضوع للمراقبة.

لذلك كان لهذه المصارف ما شاءت. وبالفعل تم تسليمها أغلب إيداعاتها لدى المصرف المركزي، وتم الإبقاء على مبلغ رمزي من أجل إقناع المودعين أنها لازالت تحت السيطرة، ثم سمح لها بإخراج الأموال دون رقابة..

فقد كشفت موازنات البنوك الخاصة العاملة في سوريا بتاريخ 30/06/2014 أن 98.5% من أموال عملائها تم إيداعها في مصارف خارجية، أي معظم إيداعات المصارف يتم إخراجها ولم يبقى في المصارف السورية سوى 1.5% من حسابات عملائها، وذلك بهدف تحقيق إيرادات لها، بعلم المركزي ودون معرفة أو موافقة العملاء، لأنه لا يوجد في القانون ما يضمن حقوق المودعين في حال إعلان الإفلاس أو إغلاق البنك، وبالتالي فإن البنوك تحصّل الأموال على حساب المودعين دون علمهم من جهة ودون ضامن لحقهم من جهةٍ أخرى.

هذا يذكرنا باللعبة التي لعبتها المافيا الروسية على زبائن البنوك التي افتتحوها في أذربيجان وقاموا بتهريب جميع أموال المودعين إلى مصارف خارج أذربيجان ومن ثم إعلان إفلاس البنوك، أثناء أحداث انفصال جمهورية أذربيجان عن روسيا.

إذاً، من الطبيعي أن تستمر هذه البنوك بالبقاء في السوق السورية، فهي لم تخسر شيئاً حتى الآن، وبالأساس لا يوجد لديها ممتلكات على الأرض السورية فجميع أبنيتها مستأجرة، باستثناء بنك ببلوس لرامي مخلوف في الشعلان الذي منحه النظام أحد الأبنية المصادرة من رفعت الأسد وهو ما خوله أن يكون شريكاً دون أن يدفع شيئاً...!!

إنها استمرار لقصص الرعب التي حاول النظام أن يبثها في الشعب السوري على مدى أكثر من أربعين عاماً، لاستنزاف مقدراته الجبارة وتجويعه من أجل أن يحكم سيطرته عليه، ويحكمه فيما بعد حافظ الثاني وبشار الثاني وهكذا دواليك ...

وكل الشكر للثورة السورية المباركة ...

* هامش:

أسماء أبرز المستثمرين السوريين في هذه المصارف الخاصة وردت على موقع سوق دمشق للأوراق المالية، ونلاحظ تقريباً غياب رجال الأعمال الحلبية عن المساهمة في هذه المصارف. رغم أن الموقع لم يورد أسماء مهمة: مثل رامي مخلوف وسليمان معروف وعماد غريواتي وعصام أنبوبا ولبيب الأخوان وغيرهم ..!!
ومن خلال موقع سوق دمشق للأوراق المالية، يتصدر قائمة المستثمرين في المصارف الخاصة السورية، المستثمر محمد طلاس فرزت، بملكية 3.255 ملايين سهم في بنك قطر الوطني- سورية، يليه في المرتبة الثانية سامر صلاح دانيال بملكية 5.525 ملايين سهم في البنك العربي- سورية، على حين يأتي رجل الأعمال أحمد نبيل الكزبري في المرتبة الثالثة بملكية 2.5 مليون سهم في بنك الشام الإسلامي، يليه في المرتبة الرابعة رياض بشارة عبجي بملكية 2.33 ملايين سهم في بنك بيمو السعودي الفرنسي.
ويحلّ في المرتبة الخامسة نادر قلعي الذي يملك 2.06 ملايين سهم في بنك بيبلوس سورية لمالكه رامي مخلوف، يليه في المرتبة السادسة إحسان البعلبكي بـ2 مليون سهم في بنك سورية والمهجر، ثم يأتي باسل سيفي الحموي في المرتبة السابعة بملكية تتجاوز 1.75 مليون سهم في بنك عودة- سورية، وهو مدير عام البنك السابق.
ويحل في المرتبة الثامنة محمد المرتضى محمد الدندشي بملكية 1.744 مليون سهم في بنك بيبلوس- سورية، يليه لؤي الأعسر بملكية 1.675 مليون سهم في بنك الشام الإسلامي، وفي المرتبة العاشرة أحمد سعيد الشهابي بملكية 1.575 مليون سهم في فرنسبنك- سورية.
كما يملك 13 مستثمراً نحو 15 مليون سهم، بملكية للواحد منهم بين المليون والمليون ونصف المليون ليرة سورية، وأولاً يأتي المستثمرون الثلاثة الذين يملك كل منهم 1.5 مليون ليرة سورية، وهم محمد مرهف الأخرس في بنك الأردن- سورية، والأخوان علي مهران خونده في بنك الشام الإسلامي، وكريم مهران خوندة في بنك سورية والخليج.
ثم يأتي جورج أنطوان العشي الذي يملك ما يقارب 1.145 مليون سهم في بنك عودة- سورية، وإلى جانبه أحمد محمد العبود بملكية تقارب 1.145 مليون سهم أيضاً في البنك ذاته ..
ويأتي مهران هازار الذي يملك 1.14 مليون سهم في بنك بيمو السعودي الفرنسي، ومعه بسام المعماري أكثر من 1.04 مليون سهم في البنك ذاته، وأيضاً أحمد رهيف الأتاسي بملكية تتعدى مليون سهم في البنك العربي- سورية.
ويبقى المستثمرون الخمسة الذين يملك كل منهم مليون سهم، وهم الثلاث الكبار في بنك البركة سورية، عبد السلام الشواف، ومحمد الشاعر، وغسان سكر، إلى جانب إبراهيم شيخ ديب في بنك سورية والمهجر، وناجي شادي في بنك الشرق.
أيضاً هناك مستثمرون يملك الواحد منهم أقل من مليون سهم، نذكر منهم محمد محمد أوبري وهو صاحب أعلى ملكية بين الأشخاص الطبيعيين في بنك سورية الدولي الإسلامي، إذ يملك فيه 323 ألف سهم تقريباً ..
كما يملك عامر حسني لطفي (وزير اقتصاد سابق) أكثر من 152.2 ألف سهم في المصرف الدولي للتجارة والتمويل، وهو أيضاً صاحب أعلى ملكية فردية في المصرف.
ويمكننا أن نذكر أيضاً عدداً لا بأس به من كبار المستثمرين والأعضاء في مجالس إدارات المصارف التي يتملكون فيها بأكثر من 600 ألف سهم للواحد، وهم بالترتيب؛ يوردان بشارة عجي بملكية 885 ألف سهم من بنك بيمو السعودي الفرنسي، يليه الأخوان عمر وسامر نعمان أزهري بملكية الذي يملك كل منهما 835 ألف سهم في بنك سورية والمهجر.
ثم يأتي فريد طلال الخوري بملكية 750 ألف سهم في بنك بيمو وإلى جانبه غسان سكر بملكية 750 ألف سهم أيضاً، ولكن في بنك البركة، ثم يأتي عدنان تقلا بملكية 687 ألف سهم في بنك عودة، يليه راتب الشلاح بملكية 625 ألف سهم في بنك سورية والمهجر.

ترك تعليق

التعليق