حي ساروجة بدمشق القديمة.. اسطنبول الصغرى ومربط خيول الثوار والفاتحين


"يوم تحاسب الشعوب من خرّب تراثها ستحاسب من خرّب ذلك الحي العريق"، هذا ما كتبته الأديبة الدمشقية، "ناديا خوست"، في كتابها "الهجرة من الجنة"، تعليقاً على ما آل إليه سوق وحي ساروجة، أو "اسطنبول الصغرى"، الذي يُعتبر نموذجاً رائعاً للأحياء التقليدية المميزة في دمشق القديمة، من ناحية التخطيط والعمارة، ولما يحتويه هذا الحي من أوابد تحمل أهمية تاريخية وفنية كبيرة.
 
ومنذ إعلان التنظيم في حي سوق ساروجة وهجرة الميسورين من أبنائه، سقطت الحصانة عن الحي القديم، فأصبح نمطاً غير شرعي، وبدت الحياة التي استمرت فيه 8 قرون كأنها طارئة.

يعيد العديد من المؤرخين ازدهار "حي ساروجة" إلى القرنين الخامس والسادس عشر الميلاديين-كما يقول الباحث د. ساطع محلي-، واستحوذ الحي على أفئدة رجال الجيش والإدارة العثمانيين، وأخذ يحتل وظيفة المركز الأهم الذي يفضله رجال الإدارة والجيش وأفراد البعثات الدبلوماسية الأجانب على المركز القديم للمدينة القديمة داخل السور، حيث مكنت فسحة الأرض الواسعة وتوفر المجاري المائية من التوسع آنذاك في تنظيم الطرقات والأزقة وبناء الأبنية السكنية، ومنشآت المرافق العامة المختلفة مثل الإدارات والجوامع والمدارس والحمامات، الخ... وفق مخططات أكثر انتظاماً وأكثر فرجة، بالمقارنة مع المدينة القديمة داخل السور، ومظاهر شرقية أكثر تطوراً وأكثر غنى بالتزيينات الزخرفية التي تأخذ في الكثير من وحداتها وعناصرها الفنية ملامح الأبهة.

*المدرسة الشامية البرانية

تذكر المصادر التاريخية أن حي سوق ساروجة أنشئ في القرن الرابع عشر الميلادي في عهد الأمير المملوك سيف الدين تنكز، الذي مكث في دمشق طويلاً، وإليه ترجع الكثير من الآثار المعمارية، واسم الحي منسوب إلى أحد قادته، وهو صارم الدين ساروجة، المتوفي سنة 743 هـ-1342 م. واحتل الحي مكانة مرموقة، فكان مجالاً للتنافس بين الأمراء المملوكين الذين تسابقوا لبناء المنشآت فيه، فأشادوا المدارس والجوامع والحمامات التي لا يزال الكثير منها قائماً حتى الآن. وكانت المدرسة الشامية البرانية أساساً لإنشائه، حيث أخذ بالاتساع حولها تدريجياً حتى اكتمل في عهد الأمير "تنكز".

وأصبح له سوق خاص به، لكن حي سوق ساروجة تعرض للتخريب نتيجة صراعات الأمراء في الفترة المملوكية، ما أدى إلى دمار المدرسة الشامية البرانية برمتها. وازداد الحال سوءاً بعد أن احتل تيمورلنك دمشق عام803 هـ، وجعل مكان الحي قاعدة لمنجنيقاته التي كانت تقصف قلعة دمشق قبل احتلالها، ولم يقف الأمر عند هذا الحي فقد قام تيمورلنك بإحراق دمشق بما فيها "حي ساروجة" قبل أن ينسحب منها.

*اسطنبول الصغرى

مع انتهاء العصر المملوكي، ودخول الاحتلال العثماني إلى دمشق، أخذت الكثير من ملامح الحي والسوق تتبدل، ونظراً لوقوع الحي خارج سور المدينة، فقد تميز بسوقه الكبير ومنازله الواسعة وحماماته ومساجده الفخمة، وهذا ما دفع رجال الدولة العثمانية إلى التمركز فيه بعد أن أجلوا العائلات المملوكية منه وأطلقوا على الحي اسم (اسطنبول الكبرى) نسبة إلى الطبقات الأرستقراطية العثمانية التي كانت تقطنه كما يقول الأستاذ (إسماعيل ونوس).

 في حي ساروجة مجموعة من المشيدات الأثرية التي تعطينا صورة حيّة عن تاريخ الحي ومنها، المدرسة الشامية البرانية التي اكتسبت شهرة واسعة حيث كان الأمراء والعلماء يقيمون حفلات رسمية عند افتتاحها وإغلاقها. وجامع الورد المعروف باسم (برسباي) نسبة للأمير المملوكي برسباي الناصري نائب طرابلس وحلب في العهد المملوكي الذي أُشيد سنة 830هـ 1426م ويُعرف أيضاً بجامع الورد. والمدرسة المرادية البرانية التي أُقيمت في منزل الشيخ مراد علي البخاري، وحمام الورد ويقع خلف جامع برسباي حيث يُعتقد أن الأمير صارم الدين ساروجة هو من بناه، وهناك مسجد الوزير الذي بناه الوزير أبو علي طاهر بن سعد المزدقاني وزير أمير دمشق "ظهير الدين طغتنكين" الذي حكم دمشق بين عامي (498-522 هـ) ولم يبقَ من هذا المسجد اليوم إلا كتابة بالخط الكوفي وهذا نصها (بسم الله الرحمن الرحيم عمل هذا المسجد المبارك في أيام مولانا الأمير الاسفسهلار الأجَّل السيد الكبير ظهير الدين عضد الإسلام ومعتمد الدولة وشرف الملة وفخر الأمة قوام الملوك عماد الأمراء أمير الجيوش ناصر المجاهدين قتلغ أتابك أبي منصور طغتكين سيف أمير المؤمنين- فرحم الله من صلى فيه ودعا له بالتأييد والنصر أعز الإسلام وأذل الشرك ورحم الله عبده الوزير الفقير إلى رحمة الله تعالى أبا علي طاهر بن سعد بن علي المزدقاني. بناه وفي سبيل الله أنفق عليه من خالص ماله). كما يذكر الباحث عبد الرزاق معاذ في دراسة له بعنوان "سوق ساروجة بدايات شعر حي بدمشق".

وتعرض حي ساروجة لمحاولات إزالة خلال عهود مختلفة، ووضع المهندس الفرنسي ايكو شار مخطط هذا الحي، ولم ينفذ مخططه هذا إلا في عهد الاستقلال والزمن الوطني، وتتساءل د. خوست في كتابها آنف الذكر: "أكان ذلك تعبيراً عن رغبة العسكريين الفرنسيين والذين كان يمتنع عليهم الحي القديم أم لمحو السمة الوطنية". وتضيف خوست أن "الكارهون اختاروا حي سوق ساروجة الذي انطلقت منه خيول الثوار والفاتحين، لقربه من المركز التجاري الحديث".

وأنتجت مؤسسة "سوريا الدولية للأعمال الفنية" منذ سنوات، مسلسلاً بعنوان "سوق ساروجة"، من تأليف "أحمد حامد" وإخراج "باسل الخطيب"، وهو عمل درامي اجتماعي ضخم يروي أحداث قصة واقعية من الموروث الشعبي الدمشقي، جرت حوالي العام 1898، وتدور معظم أحداث المسلسل في حي ساروجة.

ترك تعليق

التعليق