نداءات الباعة.. حين سكت باعة "التفاح الإزميري" في دمشق عن الكلام المباح

"تعا ودّعوا يا حوينتو هالمشمش"، نداء شعبي لأحد الباعة الجوالين في مدينة حماة كاد يودي بصاحبه إلى الموت على يد عناصر المخابرات لاعتقادهم أن المقصود به "حافظ الأسد" إثر المجازر التي شهدتها المدينة على يديه مطلع الثمانينات، ويُقال أن البائع المذكور أمضى سنوات طويلة وراء القضبان من جرّاء ندائه.

 وفي ظل أجواء الحرب وتساقط القذائف والصواريخ على أحياء دمشق وأزقتها افتقد الدمشقيون لهذا التراث الشعبي– أي نداءات الباعة- الذي لطالما كان جزءاً من النسيج التراثي الاجتماعي يمتد إلى مئات السنين ويعكس جوانب متعددة من الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في مجتمع ما وفي زمان ما، من وجهة نظر رجل الشارع وسلوكه حيالها وحيال التغيرات التي تطرأ على المجتمع والبيئة والمناخ.

واعتاد الباعة الشعبيون على إطلاق نداءاتهم في الحواري والأزقة الشعبية والأسواق ساردين أصل بضاعتهم وفصلها معتمدين في ذلك أسماء ذات توريات أو استعارات، وهم في ذلك يطلقون معنى معيناً، قد يتضمن إهانة مقصودة غير مباشرة، أو ملحة مستظرفة، أو غزلاً مبطناً. وقد تكون هذه الألفاظ في غاية الغرابة والطرافة والتعريض والتنغيم والتلميح، وهي نداءات كانت تسبب للباعة بعض المشاكل وتعرضهم للمتاعب والإهانات - كما يقول الباحث في التراث، قتيبة الشهابي، في كتابه (طريف النداء في دمشق الفيحاء)، الذي أمضى سنوات في جمع مادته وتصنيفها عبر الدراسة الميدانية للأسواق والتوثيق والبحث في الجذور التراثية للسلع ونداءات باعتها.
 
وإذا كان هذا التراث قد فُقد اليوم الكثير من موروثه السالف، فإن زيارة عابرة لأسواق الكثير من المدن السورية قبل أن يطالها شبح الحرب ترينا عمق حضور هذا التراث المحبب وامتداده من الماضي إلى الحاضر.

 ولا غرابة أن ينشأ هذا التراث الشفهي الممتع والغني بدلالاته ومغزى ألفاظه في دمشق الشام التي "جمعت ما لم تجمع مثله مدينة في الدنيا: ميراث ضخم من الماضي جعلها أقدم المدن المسكونة في الأرض بلا خلاف وفيها كل شيء. فيها الجبل والوادي والسهل والقفر والجنان والبساتين والأنهار الجارية والثمار الدانية" -كما يقول الشيخ علي الطنطاوي في ذكرياته _ ج 2.


التين والعنب

لكل نوع من السلع سواء كانت فاكهة أم خضار أم حلوى أم أشياء أخرى ألفاظ خاصة وأوصاف مختلفة، بل إن السلعة الواحدة تختلف ألفاظ وصفها تبعاً لمنشأها وطبيعتها ولونها.

 وقد حاز العنب بأنواعه المختلفة على أكبر عدد من نداءات الباعة، ومن المعروف أن في الشام أنواع من العنب ما ليس في سواها، ومن هذه الأنواع" العنب الزيني - زيني مدري برمقلي يا عنب"، و"العنب الدوماني- الزيني الماس والأحمر دباس"، "العنب الحلواني - حلواني ديراني يا عنب"، و"العنب الأسود - طلعوا العبيد علينا بالليل يا أسود"، و"العنب البلدي - بلدي بيتنا هالعنب".

أما بائع التين فيقول "دابل وعلى دبالو يا عيون الحبيب من دبالو يمشي لحالو"، فهو تين ذابل كالحبيب الذي يذبّل عينيه فيسبي الناظر إليه أو "أبيض من بياض الياسمين هالتين"، "بعل يا تين عسل يا تين".



مال أزمير

قبل أن تندلع الثورة وتتأزم العلاقة بين نظام الأسد وتركيا، كان باعة التفاح الشامي في حواري وأزقة دمشق يرددون عبارة "يا مال إزمير"، ويتبعونها بعبارة "مال أزمير فتح باب البحر علينا- يا رايق كول ونعنش قلبك من هالتفاح"، في دعاية مجانية لأحد أنواع التفاح الذي اختلفت نداءات الباعة عليه باختلاف نوعه ولونه وطعمه، كالتفاح الأحمر "مدري كولدن مدري ستاركن هالتفاح" و"التفاح السكارجي"، "بخّر الشورة يا رايق "والتفاح الصغير"، "زبداني يا تفاح"، الذي كان الباعة يغمسونه بصباغ محلى أحمر ويبيعونه للأطفال أيضاً، أما بعد اندلاع الثورة فـ"سكت باعة التفاح عن الكلام المباح".


روّق دمك يا شامي

ومن الفواكه التي أخذت نصيباً من نداءات الباعة المحببة: الكرز "شغل استنبول هالكرز"، والرمان "حلو هالرمان يا ما وردي للمفطوم دوا يا حلو"، والدراق "طاب يا غتمي هالدراقن نصب الملوك"، والدراق الزهري "دشروا البقلاوة واجوا على شانو - طاب يا زهري"، والتوت الشامي "روّق دمك يا شامي"، والصبار "هية مزاوية" - نسبة إلى منطقة المزة التي اشتهرت بساتينها بزراعة الصبار قبل أن تستولي عليها سفارة النظام الإيراني، "باردة وعالندي شغل المزة هالصبارة"، والبطيخ الأحمر "يا أخضر عالمكسر"، والبطيخ الأصفر "عالحلاوة الشّمام يا عسل"، وكذلك الخيار "أصابيع الببو يا خيار"- أي أنها تشبه أصابع الطفل الصغير لطراوته وصغر حباته.


غير أن مهنة الباعة الجوالين ارتبطت بصيت سيء منذ ما قبل الثورة، إذ كان يُعتقد أن الكثيرين منهم يعملون لصالح مخابرات النظام، وأن مهمتهم مراقبة الثوار والبيئة الحاضنة لهم، وحذّرت كتائب للجيش الحر وخاصةً في دمشق وحلب والقلمون من وجود باعة متجولين يتعاملون مع النظام ويقومون برمي شرائح الكترونية في أماكن تجمع الجيش الحر وحواجزه كي يتم استهدافها بالصواريخ الموجهة من الطيران أو صواريخ أرض أرض الحديثة الموجهة، وقد رصدت عدة حالات أدت إلى قصف مقرات ثوار كان يبيع مقابلها باعة متجولين، وبالمقابل انتشرت العديد من الصور على مواقع التواصل الإجتماعي لباعة فواكه وخضار على عرباتهم وسط دمار البيوت والأحياء في حلب في إشارة إلى أن إرادة الحياة لا تُقهر.


ترك تعليق

التعليق