الليرة على شفير الانهيار.. ما الذي حدث بعد عطلة عيد الأضحى؟


استردت الليرة السورية، خلال تعاملات يوم الاثنين، خسائرها التي مُنيت بها على مدار ثلاثة أيام متتالية، (الخميس والسبت والأحد)، إلا أن ذلك السقوط الشاقولي لسعر الصرف، لا يُنبئ بالخير، كما أن استرداده بسرعة، لا يعني بضرورة الحال، أن الليرة ستقف عند ذلك الحد من التدهور. مع الإشارة إلى أن الليرة، حتى بعد الارتفاع الذي حققته يوم الاثنين، هي عند أدنى سعر لها، منذ أكثر من ثلاث سنوات.

ويمكن للمراقب المتابع بصورة يومية لتطورات سوق العملة، أن يلحظ أن الفترة التي تلت عطلة عيد الأضحى المبارك، شهدت تراجعاً متسارعاً في سعر صرف الليرة. ورغم أن الليرة تتراجع فعلياً منذ أيلول/سبتمبر من العام الفائت، وقد تسارعت وتيرة تراجعها منذ مطلع العام الجاري، إلا أن وتيرة التراجع تلك، أصبحت حادة للغاية، بعد عطلة عيد الأضحى في منتصف شهر آب/أغسطس الفائت. وبالمقارنة مع سعر الدولار في دمشق، عشية عيد الأضحى، يمكن أن نقول أن الليرة فقدت 10% من قيمتها، خلال ثلاثة أسابيع فقط، وذلك مع احتساب التحسن الكبير الذي حققته خلال تعاملات يوم الاثنين.

ما سبق يطرح تساؤلاً ملحاً، ما الذي حدث بعد عطلة عيد الأضحى ودفع بالليرة إلى هذا التدهور؟

واجهتنا نظريات عديدة لتفسير هذا التدهور، إحدى أبرزها، وأكثرها جدارة للوقوف عندها، هي وجود أزمة حوالات خارجية، بسبب عقوبات أمريكية مفروضة على نظام الأسد، وكذلك على إيران وفنزويلا.

نظرية القيود الأمريكية على "دولار الحوالات"

وحسب تلك النظرية، فإن واشنطن تفرض قيوداً على تحويل الدولار إلى الداخل السوري، عبر القنوات الرسمية العالمية، الأمر الذي أضرّ بشكل كبير بالدخل اليومي من حوالات المغتربين التي كان يستلمها المركزي السوري، بالدولار، والتي كان يموّل خزينته من خلالها، طوال السنوات الماضية.

وأثناء بحثنا عن إثبات لهذه النظرية، لاحظنا أن معظم العاملين في قطاع الحوالات المالية بين سوريا والخارج، لا يلاحظون أي اختلاف أو ضغوط على نشاط الحوالات إلى سوريا. وقال لنا أحدهم، وهو يعمل في إحدى شركات الحوالات المالية والصرافة ما بين خارج سوريا وداخلها، إنه لا يوجد أي ضغوطات خارجية على شركات الحوالات لمنع إرسال المبالغ إلى الداخل السوري، حسب وصفه.

وقال "رمضان الصالح" لـ"اقتصاد"، إنه "لم يطرأ أي تغيير على عمل شركات تحويل المبالغ من خارج سوريا إلى داخلها، حتى في ظل الانهيار الذي شهدته الليرة السورية مؤخراً".

وأضاف أن "هناك توجهاً واضحاً بأن تُسلّم الحوالة بالعملة الصعبة وخاصة الدولار ورفض قبولها بالليرة السورية ممن يستلمها في الداخل السوري". ويبدو محدثنا أنه يشير إلى تسليم الحوالات عبر قنوات غير رسمية. ذلك أن شركات الصرافة والحوالات الرسمية المُرخصة ملزمة بتسليم الحوالات بالليرة السورية، حسب تعليمات البنك المركزي السوري.

ويؤكد "رمضان الصالح" أنه ليس هناك أي ضغوطات رسمية أو غير رسمية من دول الخليج أو من دول غربية على عمل شركات التحويل التي يتعاملون معها فيما يتعلق بإرسال الحوالات إلى الداخل السوري، وأن الأمور تسير بشكل طبيعي.

نظام "حجز الحوالات" لدى "الهرم"

من جهة ثانية، لفت مصدرنا إلى أن الجديد في الأمر هو أن "شركة الهرم للحوالات" بدأت وقبل عدة أشهر بالتعامل بنظام "حجز الحوالات" بشكل ملحوظ.

وأضاف: "شركة الهرم للحوالات المالية في سوريا والتي نتعامل معها، زادت التدقيق على الحوالات منذ شهر رمضان. وحتى اليوم لاتزال عمليات التدقيق خاصة على الحوالات التي من مصدر خارجي من دول أوروبية ومن تركيا وأي دولة خارجية أخرى".

وأضاف أن شركة "الهرم" بدأت باتباع نظام حجز الحوالات بحجة أن مصدرها خارجي، موضحاً أن الحوالة الواصلة لداخل مناطق النظام يتم احتسابها على سعر السوق السوداء بينما شركة الهرم تريد احتساب قيمة الحوالة على نشرات البنك المركزي بسوريا.

وقال "الصالح" إن "شركة الحوالات الخاصة بنا وغيرها من الشركات الأخرى العاملة في هذا المجال لديها حوالات وكلها مصدرها من الخارج محجوزة لدى مختلف فروع شركة الهرم بمختلف المحافظات السورية".

وتابع: "لدينا حوالات بقيمة 500000 ليرة سورية محجوزة لدى شركة الهرم في مدن اللاذقية ودمشق وفروع أخرى، في حين أن الزبائن يخشون مراجعة شركة الهرم كون الحوالات مصدرها خارجي من ألمانيا، وحتى الآن لا يوجد طريقة لاستردادها".

وفي حادثة أخرى، يقول "الصالح"، إن "هناك شخص أرسل حوالة قيمتها أكتر من مليون ليرة سورية بين محافظة وأخرى عن طريق مكتب الهرم، ليتم بعد ذلك استدعائه عن طريق أفرع الأمن لتبيان سبب إرسال المبلغ، إلا أن المواطن اضطر لتبرير السبب أن المبلغ الذي تم تحويله هو ثمن لشراء منزل".

وتزيد شركة "الهرم" من التدقيق على أي مبلغ قيمته أكثر من مليون ليرة سورية، يضاف إلى ذلك اشتراطها توفر سجل تجاري على الشخص الذي سيستلم الحوالة. وتُشبّه مكاتب الحوالات في الخارج شركة "الهرم" بالأفرع الأمنية، بسبب المتابعات والتدقيق على المراجعين لها لاستلام حوالاتهم، حسب وصف "الصالح".

وتستحوذ شركة "الهرم" على سوق التحويلات المالية بسبب فروعها الكثيرة بسوريا، حسب المصدر ذاته، والذي أشار إلى أن هذا الأمر دفع بعدد من الشركات لإرسال الحوالة بسعر صرف أقل إذا كانت مرسلة إلى شركة الهرم، أما عمليات التحويل للشركات الأخرى مثل (الحافظ أو شامنا أو اراك أو ارسال) فإن سعر الصرف المحول يكون أعلى من شركة الهرم، بهدف دفع الزبون لعدم التحويل عن طريق تلك الشركة.

لا مؤشرات ملحوظة على عقوبات أمريكية تنال من عمليات التحويل

من جهة ثانية، "أبو عمر"، تاجر في إحدى مناطق سيطرة النظام ويتعامل بشكل دوري مع شركات الحوالات في الداخل، وفي الخارج مع الأشخاص الراغبين بتحويل أموال للداخل السوري، قال لـ"اقتصاد"، إن أغلب التجار في خارج سوريا أخذوا احتياطاتهم ومنذ زمن طويل بدأوا باعتماد الدولار في تعاملاتهم، وعدم جمع مبالغ كبيرة بالليرة السورية، وفي حال اضطروا لذلك يسارعون لتحويلها بشكل فوري إلى الدولار.

بدوره، "أحمد خليف"، سوري مقيم في الإمارات، ويعمل كوسيط بين شركات التحويل من الخليج إلى الداخل السوري، قال لـ"اقتصاد"، إن "شركة الفؤاد للحوالات المالية المرخصة في مناطق نظام الأسد ولها فروع في دول الخليج، تعمل بشكل معتاد ووفق أسعار السوق السوداء دون التزام بأسعار البنك المركزي السوري".

وأضاف: "سمعنا عن عقوبات أمريكية مفروضة أو ستفرض على حركة الحوالات المالية من دول الخليج إلى مناطق سيطرة نظام الأسد في سوريا، إلا أنه على أرض الواقع لا يوجد أي شيء وأعمال التحويل تسير بشكل طبيعي ومعتاد".

وأجمعت هذه المصادر المتقاطعة على عدم وجود أي تغييرات طارئة على عمل الحوالات المالية من خارج سوريا إلى داخلها، كما نفوا أن يكونوا متأثرين بموضوع انهيار الليرة السورية الأخير بسبب توقعاتهم المسبقة بتعرض الليرة السورية لمثل هذه الهزات، وكونهم في ذات الوقت قد عملوا على اتخاذ جميع الاحتياطات اللازمة.

مصدر آخر يقدم شرحاً مختلفاً لطبيعة القيود الأمريكية

لكن بخلاف ما سبق، كانت الزميلة "زمان الوصل" قد تحدثت في تقرير لها بعنوان "أمريكا توسع طاقة جهنم على النظام اقتصادياً وتمنع عنه دولار الحوالات"، في مطلع الشهر الفائت، عن أن مراكز الصرافة في السعودية والإمارات، باتت تستلم الحوالة بالعملة المحلية، وتحولها إلى سوريا بالليرة، ليستلمها "البنك المركزي السوري" بالعملة السورية، ويسلمها لأصحابها بنفس العملة والقيمة.

سابقاً كانت مراكز التحويل، تتسلم الحوالة بالعملة المحلية للبلد الذي تعمل على أراضيه، ثم تحولها للدولار، ليتسلمها المركزي السوري، ويحولها بدوره إلى الليرة، لكن بسعر الدولار الذي يحدده هو، والذي يختلف عن سعر السوق الحقيقي بشكل كبير. (دولار الحوالات الرسمي أقل من السعر الرائج في السوق بأكثر من 220 ليرة للدولار الواحد)

بدوره، أكد مصدر خاص مطلع، لـ "اقتصاد"، أن واشنطن وضعت بالفعل "فيتو" على تحويل الحوالات بالدولار إلى سوريا. وأن ما يحدث اليوم، هو تحويل الحوالات بالعملة المحلية للدولة التي يتم منها التحويل، أي مثلاً بالدرهم الإماراتي أو الريال السعودي.. أو حتى بالليرة السورية.. الأمر الذي أفقد المركزي السوري القدرة على الحصول على دولار حوالات، كما كان الوضع سابقاً.

المصارف اللبنانية تستغل أزمة العقوبات على النظام

لكن لا يبدو أن المشهد ينحصر بالحوالات القادمة، تحديداً من دول الخليج، بل يمتد إلى لبنان أيضاً. بهذا الصدد، قال "أبو أحمد"، وهو تاجر مصاغٍ ذهبية في منطقة "الحريقة" بالعاصمة دمشق، يقوم ببيع وشراء القطع الأجنبي، في تصريح خاص لـ"اقتصاد" إنّ العقوبات الأمريكية التي فرضت خلال الفترة الماضية على نظام الأسد، خلفت آثاراً بالغة السوء على التجّار والمستوردين الموالين للنظام والذين حاولوا بدورهم الالتفاف على تلك العقوبات عبر اللجوء إلى استخدام المصارف اللبنانية لتغطية نفقات أعمالهم التجارية وضمان استمراريتها بشكلٍ يخدم النظام، الأمر الذي زاد من ارتفاع الطلب على الدولار في لبنان، وبالتالي انحصرت الفائدة المالية في السوق اللبنانية بدلاً من السوق السورية.

وأضاف المصدر: "قامت الحكومة اللبنانية بدورها باستغلال الأزمة السورية وعملت على زيادة نسبة الفوائد على الأموال المودعة في المصارف اللبنانية حتى وصلت في الوقت الراهن إلى نحو 8%، ما دفع بكثير من السوريين إلى المسارعة بسحب إيداعاتهم من المصارف السورية وإيداعها في المصارف اللبنانية طمعاً في تحقيق نسبة أرباح أكبر".

ووفقاً لما أشار إليه "أبو أحمد" فإنّ اتساع الفجوة المالية بين سعر صرف البنك المركزي السوري وبين نظيره في السوق السوداء، جعل الكثير من المغتربين السوريين في الخارج يتجهون إلى السوق السوداء من أجل تحويل الأموال (الحوالات المالية) إلى أهلهم وذويهم في الداخل عوضاً عن إرسالها عن طريق القنوات الرسمية.

شائعات ولّدت فوضى في سوق العملة

ولا يبدو أن الأمر ينحصر فقط بالعقوبات أو القيود على الحوالات بالدولار، بل تتعلق أيضاً بالأثر النفسي للمضاربة والشائعات المتداولة في البلاد. وبهذا الصدد، قالت سيدة تُعد شريكة في مكتب تحويل أموال في السوق السوداء، بمدينة السويداء، إن الانخفاض الأخير لليرة السورية بدأ جراء شائعات "كانت اعتيادية" تم تداولها بين الناس، فتهافت العامة بشكل "كثيف ورهيب" على شراء القطع الأجنبي حفاظاً على مدخراتهم، الأمر الذي فرض حالة من المضاربة وفوضى ارتفاع سعر الدولار الأمريكي بحكم العرض والطلب. لكن لم يكن من المتوقع وصول السعر إلى ما هو عليه الآن.

وأكدت: "فيما يتعلق بالحوالات الخارجية التي يعتاش منها عدد كبير من العائلات بسبب فقدان فرص العمل وتدني الأجور، فهي يوماً بعد الآخر تزداد نشاطاً عبر مكاتب تحويل الأموال في السوق السوداء التي تستحوذ على أضعاف ما يتم تحويله عبر شركات التحويل الرسمية التي تزاول عملها حتى اللحظة، بسبب أنّ الأخيرة تسلمها لمستحقيها وفقاً لنشرة أسعار البنك المركزي الغائب كلياً عن الواقع الاقتصادي المحلي، الأمر الذي يساهم في اضعاف واردات الخزينة من العملات الصعبة في ظل الإنفاق المستمر وفقدان بقية الموارد جراء العقوبات الاقتصادية الأمريكية الأخيرة".

وأشارت: "لابد من وجود ارتباط لانخفاض قيمة الليرة السورية مع المشكلات المتواترة مؤخراً بين رؤوس النظام أنفسهم من جهة، والخلاف الحاد مع المصرف المركزي اللبناني من جهة أخرى، اذ ازدادت مخاوف رجال الأعمال الذين تصدروا مشهد سحب العملات الصعبة من الأسواق لا سيما في العاصمة دمشق واللاذقية وحلب".

نفاذ الاحتياطي الأجنبي لدى المركزي

ولفتت محدثتنا أنّها كانت تترقب فوضى السوق هذه بسبب انخفاض الاحتياطي الأجنبي في المصرف المركزي من 18 مليار دولار قبل العام 2011 إلى 700 مليون دولار في مطلع العام الماضي 2018، وتُرجح نفاذ كامل الاحتياطي الذي كان مسخراً لرجال الأعمال النشطين في الاستيراد وفق مؤشرات عديدة أهمها تحجيم تمويل المستوردات، والاعتراف الأخير بفاعلية السوق السوداء تحت مسمى "السوق الموازي"، وعدم التدخل بحركة السوق كما بقية التجارب في السنوات السابقة.

وحسب مصادرنا في الداخل السوري، يبدو أن لدى عموم الناس قناعة بأن نظام الأسد يكابد بالفعل حالة حصار وعقوبات شديدة من جانب الولايات المتحدة الأمريكية، ويستشهد بعضهم بحادثة ناقلة النفط الإيرانية "أدريان داريا1"، كمثال على التضييق الأمريكي المستمر على نظام الأسد، من الناحية الاقتصادية.

في الداخل.. يتوقعون المزيد من التراجع لليرة

ورغم أن السوريين في الداخل يدركون في معظمهم أن قانون "سيزر – قيصر" الشهير، لم يُطبق بعد، إلا أنهم يعتقدون أن هناك عقوبات كبيرة مفروضة بالفعل على النظام، ويتوقعون تهاوٍ أكبر لليرة، ربما تصل معها إلى عتبة الـ 1000 مقابل الدولار، لذلك هناك إقبال كبير على تحويل جميع المدخرات الموجودة لدى الناس من الليرة إلى الدولار.


وفي الختام، لم تنجو الليرة أيضاً من براثن نظرية الصراع بين آل مخلوف وآل الأسد، التي تمثل قناعة لدى الكثير من السوريين، بينما يظن بعضهم أنها تمثيلة استخباراتية لأهداف الدعاية النفسية لا أكثر. لكنها سواء كانت حقيقة انعكست سلباً على سعر صرف الليرة، أو كانت لعبة مخابرات، فهي دون شك، زادت من الأثر النفسي السلبي الذي عزز ميل السوريين إلى التخلص من أي ملاذات إدخارية بالليرة السورية، ولو كانت محدودة، والبحث عن سبل لضمان القليل الذي بقي بين أيديهم، وفي حالات كثيرة، تهريبه خارج البلاد.


ترك تعليق

التعليق