بزنس الدعاة الجدد، ولعنة السياسة على الدين


طوال عقود، كانت إحدى أكثر الدعوات إثارة للجدل، تلك التي تحذر من اجتياح الدين لهامش السياسة في عالمنا العربي. وكانت تلك الدعوات تندرج في سياق انتقاد تيارات "الإسلام السياسي"، وبغض النظر عن مدى صوابية تلك الدعوات، يبدو أننا اليوم في وضع معكوس، حيث تجتاح السياسة، ومعها "البزنس"، هامش الدين، وتتسيد أجواء الدعوة له، على حساب قيمه ذاتها.

بدايةً، سادت قبضة السلطات العربية الحاكمة، في أروقة ما يُوصف بـ"الإسلام الرسمي"، ومؤسساته، التي تقزمت بصورة نالت من تاريخها الدعوي العتيد، فأصبحت مجرد أدوات لشرعنة الحاكم، وتبرير سياساته، والترويج له.

أما اليوم، فيبدو أن ما يُسمى بتيار "الدعاة الجدد"، قد سقط في امتحان "البزنس"، ليصبح هو الآخر طوع قبضة السلطات ذاتها، التي تُطبق سيطرتها على وسائل الإعلام العربية، وعلى مصادر رزق أولئك "الدعاة".

وبالمثل، حينما كشفت ثورات الربيع العربي عورات رموز "الإسلام الرسمي"، وعدد كبير من رموز تيار "الدعاة الجدد"، تأتي أزمة قطع العلاقات مع قطر، لتُتم تلك التعرية.

وهذه المرة، باسم "البزنس"، ولصالح الجهة المستفيدة ذاتها، وهي السلطات الحاكمة العربية التي تُمول وتدير الشبكات الإعلامية العربية الكبرى.

منذ يومين، وقع الداعية الشهير، عمرو خالد، في سقطة، حينما فُهمت تغريداته الخاصة بحلقة من حلقات برنامجه الرمضاني الحالي، على قناة "MBC"، على أنها نيلٌ من موقف السعودية ومصر والبحرين والإمارات، في قطع العلاقات مع قطر.

عمرو خالد، الذي اعتاد أن يلخص حلقات برنامجه، بتغريدات على صفحته الخاصة، تناول حصار قريش للنبي محمد صلى الله عليه وسلم في شعب أبي طالب. مشيراً إلى أن ذلك الحصار حمى النبي، وجعل المسلمين يكسبون تعاطف العرب، لأنهم كانوا سلميين، لا يحبون العنف.

تلك التغريدات فهمها نشطاء إعلاميون موالون للسعودية ومصر والإمارات والبحرين، على أنها إدانة ضمنية لحصار تلك الدول الأربعة لقطر.

وشن أولئك النشطاء هجوماً لاذعاً على عمرو خالد. وذكّرهم أحد الإعلاميين المصريين بأن مصدر رزقه الرئيسي، قناتان سعودية ومصرية، ملمحاً له بأنه بذلك، يقطع رزقه.

فسارع عمرو خالد إلى حذف كل التغريدات التي تناولت بشكل موجز، وقائع حصار قريش للنبي والمسلمين الأوائل، في شعب أبي طالب. ومن ثم، نشر تغريدتين، أكد فيهما أنه يساند قرارات مصر تجاه كل "من يمس أمنها"، سواء من حكومة قطر أو غيرها، نافياً بشدة أي ارتباط بين تغريداته الخاصة بالبرنامج، وبين أزمة قطع العلاقات مع قطر.

سقطة عمرو خالد تلك، حينما حذف تغريدات تتحدث عن جزء من تاريخ الرسالة المحمدية، خوفاً على "رزقه"، قد تكون أقل وطأة بكثير من تلك المواقف الصريحة التي أدلت بها مؤسسات ورموز دينية، رسمية، تأييداً لمواقف الحكام. فالأزهر في مصر، أيد رسمياً موقف سلطات بلده من قطر، بل ودعا إلى مضاعفة جهود مقاطعتها. فيما كان وزير الخارجية الأمريكي، ريكس تيلرسون، يدعو إلى تخفيف الحصار على قطر، بسبب تداعياته غير المقصودة في شهر رمضان.

أما إمام الحرم المكي، "السديس"، فذهب إلى أبعد من ذلك، وأُشيع أنه دعا على قطر، بشكل غير مباشر، أثناء صلاة التراويح في إحدى أيام الشهر الفضيل، باعتبارها، "ممولة للإرهاب". ووصف في حديث مع صحيفة سعودية، إجراءات بلاده ضد الجارة الخليجية، بـ "السديدة".

بطبيعة الحال، قد لا يكون من المفاجئ للكثيرين، مواقف رموز "الإسلام الرسمي" في العالم العربي. فهم في نهاية المطاف، "علماء السلطان"، حسب توصيف الكثير من المفكرين.

لكن، للأسف، تبدو سقطات رموز "الدعاة الجدد"، أكثر إيلاماً، خاصةً أنها ترتبط بـ "البزنس"، بعد أن تحولت البرامج الدينية على القنوات العربية إلى صناعة رائجة ومربحة، للقنوات وللـ "الدعاة"، في آن.

لا يعيب أي "داعية"، أن يبحث عن مصدر دخل له، لكن ما يعيبه أن يكون بدرجة عالية من الجُبن والهشاشة، بحيث يخشى من مجرد التلميح، لفقدان مصدر دخله. وبعيداً عما يُشاع، عن حياة الترف التي يحياها أولئك الدعاة، فإن اتخاذهم جانب الحكام، كفيل بخسارتهم لأي أثر إيجابي يحققونه من رسالتهم التي يوجهونها للجمهور. مما يعني، خسارتهم للآخرة، مقابل كسب الدنيا، حسب الفهم الإسلامي ذاته، الذي يروج له أولئك "الدعاة".

في أدنى الحدود، يمكن أن تتفهم من داعية ما، موقف الحياد، تجنباً للفتنة، وفق الفهم الكلاسيكي السائد للفقه الإسلامي. لكن، ما لا يمكن تفهمه، حتى وفق أكثر التفسيرات التزاماً برضا "ولي الأمر"، أن يتورط "الداعية" أو "عالم الدين"، بصراعات الحكام الدنيوية.

بكل الأحوال، يبدو أن ريكس تيلرسون كان حريصاً على تذكير الدول "الإسلامية" الكبرى، بأننا في رمضان، وأن حصار دولة "إسلامية"، يجب ألا يكون بهذه الفظاظة في هذا الشهر الفضيل، على الأقل اتقاءً لانتشار حالة من التعاطف مع مواطنيها.

بهذا الصدد، نختم بمقولة لأحد أبرز مراجع الفقه الإسلامي الكلاسيكي، "أبو حامد الغزالي"، في الباب السادس من كتابه، "إحياء علوم الدين"، تحت عنوان، "فيما يحل من مخالطة السلاطين الظلمة"، يقول الغزالي: "وبالجملة، إنما فسدت الرعية بفساد الملوك، وفساد الملوك بفساد العلماء فلولا القضاة السوء والعلماء السوء لقل فساد الملوك خوفاً من إنكارهم. ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: "لا تزال هذه الأمة تحت يدي الله وكنفه ما لم يمالئ قراؤها أمراءها".

ترك تعليق

التعليق