من طراز المنفوش وقاطرجي.. برجوازية المعابر ومآلاتها المحتملة


قد نكون بصدد ولادة طبقة برجوازية جديدة في سوريا، هي الثالثة في تاريخها المعاصر، والثانية التي تتولد بفعل تداعيات حكم آل الأسد. وقد يكون لهذه الطبقة الجديدة، مآلات مختلفة، باختلاف السيناريوهات التي تنتظر مستقبل سوريا.

يمكن لنا أن نسميها اصطلاحاً "برجوازية المعابر"، وإن كانت التسمية مجازية، لكنها تعبر عن إحدى السيناريوهات المحتملة لمستقبل البلاد، حيث تتقاسم قوى عسكرية مختلفة، مناطق النفوذ فيها، ليكون نظام الأسد، أحد هذه القوى، وليس الوحيد بينها.

وإن كان الأسد الأب لم يحاول جدياً الإطاحة بالبرجوازية السورية الأولى، التقليدية، بل حاول التقرب منها، والتحالف معها، إلا أنه يتحمل عملياً، مسؤولية ولادة البرجوازية الثانية، التي ظهرت للعلن، وتُوجت على هرم الاقتصاد السوري، في عهد الابن.

وبخلاف البرجوازية التقليدية، ذات الجذور العميقة، والخلفية المدنية، كانت البرجوازية الثانية بلا أصول، وكان المال معيارها الوحيد، لذا خفت صوت الأخلاق في أوساطها، فكانت سيطرة نظام الأسد عليها، أقوى بكثير، مقارنةً بتلك التقليدية، التي بقيت تحافظ على استقلاليتها النسبية، وإن كانت لم تنجُ من براثن نظام الأسد ومساعيه للسيطرة.

في حقبة الحرب، يبدو المشهد مختلفاً نسبياً، فالبرجوازية الثالثة، الوليدة، ليست نتاجاً مباشراً لنظام الأسد، بقدر ما هي نتاج الظروف التي خلقتها الحرب، وتعدد قواها الميدانية.

وإن كان نظام الأسد، سارع لتوطيد السيطرة والصلة الوثيقة بهذه البورجوازية الوليدة، إلا أنه، ربما، يفقد تلك السيطرة، وتصبح الصلة بتلك البرجوازية، ندّية، إن كان سيناريو اللامركزية، سيفرض نفسه على مستقبل البلاد.

وبخلاف سيناريو التقسيم، الذي يتم التهويل به من حين لآخر، يبدو جليا أن سيناريو اللامركزية قد تجسد عملياً، فباتت هناك بقع مختلفة في سوريا، من حيث القوى التي تسيطر عليها، ومن حيث شكل المؤسسات التي تديرها. وهي قوى ستبقى قائمة، بل سيتجسد نفوذها أكثر، حال انخراطها في مسار التسوية السياسية الذي تديره القوى الدولية والإقليمية في الميدان السوري.

قريباً من دمشق، يبرز نموذج جلّي لهذه البرجوازية الجديدة، في شخصية التاجر والصناعي "محي الدين المنفوش"، الذي أحكم هيمنته شبه المطلقة على اقتصاد الغوطة، رغم محاولات عديدة من جانب النظام، لتفتيت هذه الهيمنة عبر صفقات مع تجار آخرين، لم تلقَ النجاح المأمول.

المنفوش، ورغم كل الاتهامات له بشراكاته المعقدة مع الرموز العسكرية والمخابراتية في النظام، وهي اتهامات دقيقة في الأغلب، إلا أنه يقف بعيداً خطوة عن النظام، ويجد حاضنة شعبية مقبولة في الغوطة، ترى فيه أحد رموزها.

وبخلاف المنفوش، نجد في الشمال والشمال الشرقي من البلاد، تاجراً آخر، يمسك بخيوط عديدة، ومتشابكة، رغم إقامته في دمشق، وعضويته في مجلس الشعب التابع للنظام. هو "حسام قاطرجي"، الذي يُعتقد أنه العرّاب الرئيس لمعظم صفقات النفط والقمح بين النظام من جهة، وبين كل من تنظيم "الدولة الإسلامية"، وحزب "الاتحاد الديمقراطي" الكردي، من جهة أخرى.

قاطرجي يجاهر بولائه للنظام، وتربطه صلة وطيدة وعلنية برموزه. لكنه يتمتع، في الوقت نفسه، بعلاقات متشابكة مع تجار المناطق الخارجة عن سيطرة النظام.

في مناطق أخرى من سوريا، تبهت الأسماء أكثر، وتصبح أصغر. لكن في كل معبر يربط بين مناطق النظام، ومناطق خارجة عن سيطرته، هناك نماذج أخرى من طراز المنفوش وقاطرجي.

في ريف حمص الشمالي وفي الجنوب السوري، وفي جنوب دمشق، وكذلك في إدلب ومناطق "درع الفرات". في كل تلك المناطق، والمعابر التي تربطها بمناطق النظام، هناك نماذج عن المنفوش وقاطرجي.

نماذج تنبع قوتها من كونها صلة الوصل التجارية والمالية بين فصائل معارضة، وبين ميليشيات تتبع للنظام. كما أنها تشكل صلة الوصل بين مجتمعات التجار في تلك المناطق المختلفة. حيث تشكل التجارة إحدى مصادر تمويل هذه الحرب واستمراريتها. كما قد تشكل في المستقبل القريب، الشريان الرئيس الذي سيربط بين مناطق سورية متعددة، قد يخضع كل منها لنموذج إداري خاص، في ظل دولة لامركزية، لن يكون لمركزها في دمشق، الكلمة العليا المطلقة.

بطبيعة الحال، فإن القراءة السابقة هي إحدى المآلات المحتملة لتطور "برجوازية المعابر"، لكنها ليست الوحيدة. فهناك مآلات أخرى. إحدى أبرزها، أن يشكل أولئك التجار مراكز قوى مؤقتة، تذبل بنهاية الحرب، إن لم يسعوا لتشكيل تكتل يمثلهم، بصورة تحولهم إلى طبقة اجتماعية فاعلة. وهو أمر وارد بشدة. كما أن هناك مآلات أخرى واردة أيضاً، كأن يتمكن النظام من استعادة هيمنته على المجال التجاري والاقتصادي للبلاد، عبر تفتيت أي تكتلات مستقلة للتجار والصناعيين، ومد خيوط وشبكات سيطرته، بينهم.

وأياً كان المآل الذي ستؤول إليه "برجوازية المعابر"، يبقى أنها ظاهرة حديثة في المشهد السوري، تستحق الوقوف عندها، وتأملها بدقة. إذ قد يكون لها دور في تشكيل مستقبل البلاد، من زاوية التجارة والأعمال، هذه المرة.

ترك تعليق

التعليق