أخيراً.. أفِل "أيلول اللعين"


لم يكن شهراً عادياً، أيلول من هذه السنة. ربما استشعرته أكثر من اللزوم، إذ لحظت أن الكآبة تخيم على معظم الناس، وكنت أحدهم دون شك. الأمر الذي دفعني للبحث والتقصي.. لماذا أيلول ثقيل الوطأة على معظم من نتحدث إليهم؟

في عُرف السوريين، يرتبط أيلول بأعباء ثقيلة مالياً. فهو شهر العيد، والمونة، ومستلزمات المدارس، وكذلك، التحضير للشتاء. الأمر الذي يجعل الصعوبات غير محمولة، بالنسبة لغالبيتهم، في ظل الظروف الخاصة التي يعيشونها في الداخل، أو في بلدان اللجوء والمهجر. لكن بعد البحث والتقصي، اتضح لي أن الثقل المالي الذي يشكله أيلول، على السوريين، هو جانب واحد فقط، من الجوانب التي تجعله سبباً للكآبة.

في عُرف المتخصصين، هناك ما يُسمى بـ "اكتئاب الخريف". فتقلبات الطقس، والانتقال من أجواء العطل الصيفية، إلى أجواء المدارس، والتزامات العمل، خاصة بعد العطل الكثيرة في الصيف، تجعل لشهر أيلول وطأة نفسية خاصة على معظم سكان العالم. لذا، فإن غالبية الناس، حول العالم، تُصاب بحالة اكتئاب، في شهر أيلول تحديداً.

وهكذا، بدأت أفهم تدريجياً، لماذا معظم من أتحدث إليهم، يؤكدون مزاجهم السيء، وإحباطهم الملحوظ، خلال هذا الشهر. بل وتقلّ وتيرة العمل والنشاط. وتنحصر حالات الإبداع والابتكار.

 واكتشفت أبعد من ذلك، أن حالات الاكتئاب، تتطلب وعياً وإدراكاً، للتعامل معها، لأن بعض الناس يقعون فريستها، فتتحول لديهم إلى حالات اكتئاب مزمنة، نتيجة ظروفهم الخاصة التي يمرون بها. ودون شك، ينطبق ذلك بصورة كبيرة جداً، على السوريين.

في نيسان الفائت، دقت منظمة الصحة العالمية ناقوس الخطر، مشيرةً إلى ازدياد خطير لنسب الإصابة بحالات مزمنة من الاكتئاب. وخصّت المنظمة منطقة شرق المتوسط، التي تضم سوريا، بإشارة خاصة، حيث أن نسبة الإصابة بالاكتئاب تتجاوز الـ 20% في الحدود الدنيا.

وبخلاف ما نظنه، ليس السرطان أو أمراض القلب مثلاً، هي وحدها الأمراض المزمنة والخطرة التي قد تواجه البشر. إذ يُصنف الاكتئاب بوصفه، السبب الثاني للوفيات لمن هم بين الـ 15 إلى 29 عاماً. ليكون أحد أخطر التحديات الصحية في العالم.

وقد صنفت منظمة الصحة العالمية، الاكتئاب، بوصفه سبباً رئيسياً، لاعتلال الصحة والإعاقة على مستوى العالم، ويعاني منه أكثر من 320 مليون نسمة، 10% منهم فقط يتلقون العلاج.

المُصاب بالاكتئاب، تُلاحقه الأفكار المُحبطة، ولا يمكنه مغادرة السرير في الصباح، إلا بصعوبة، ويبدو كل شي أسوداً في نظره. و"اكتئاب الخريف" تحديداً، يتميز بأعراض الكسل والخمول والإحباط.

المشكلة الأكبر في عالمنا العربي، بما فيه سوريا، أننا ننظر لمرض الاكتئاب بدرجة عالية من الاستهانة والاستهتار. ويندُر أن نسمع عن أحد قد زار عيادة طبيب نفسي، للعلاج من حالة اكتئاب مزمنة. رغم أن علائم وآثار الاكتئاب جليّة في أوساطنا. إذ أن هذا المرض يؤثر في العلاقات الاجتماعية والأسرية، وينال منها بطريقة مدمرة أحياناً. وتذهب دراسات متخصصة إلى أن أكثر من 40% من السوريين بحاجة لدعم نفسي. فالحرب، وما جرتها من ويلات، تترك ندبات نفسية أقسى من تلك المادية.

وفيما يراجع الكثير من مصابي الاكتئاب في المجتمعات الغربية، الأطباء النفسيين، للعلاج، حيث هناك وعي كامل بمخاطر هذا المرض، وتداعياته. يلجأ المصابون به في العالم العربي، في بعض الحالات المزمنة والمتقدمة، إلى السحرة والمشعوذين. وتذهب تقديرات إلى أن العرب ينفقون 5 مليارات دولار سنوياً على عالم الشعوذة. فيما يرجع السبب الرئيس لزيارة المشعوذين إلى عوامل يمكن ردها لحالات الاكتئاب، وما يرافقها من إحباط تلازمه الأفكار السوداوية.

يقول لنا أطباء علم النفس. الخطوة الأولى لعلاج الاكتئاب، هو إدراك وجوده، والتحدث عن الإصابة به، للأصدقاء والأقارب. كما يقدم هؤلاء وصفات بسيطة جداً، للتخفيف من وطأة الاكتئاب. كممارسة الرياضة، ومشاهدة فيلم كوميدي مثلاً، أو قراءة كتاب، وتجربة أطعمة جديدة، أو القيام بأعمال تسلية غير معتادة.

بشيء من المراجعة لوعينا الجمعي في العالم العربي، نلحظ أن أيلول يرتبط بالمآسي والنكسات لدينا، حتى أنه تحول لمتلازمة تُنبئ بالشر، في نظر جيل الآباء، حينما نعتوه بـ "أيلول الأسود"، في حالة تطيّر فريدة من نوعها. فقد صادفت عدد من التواريخ السيئة، في نظر ذلك الجيل، نهاية شهر أيلول. كوفاة جمال عبد الناصر، وانفصام عرى الوحدة السورية – المصرية، وحرب الأشقاء الفلسطينيين والأردنيين.

لكن علماء النفس يبسطون الأمر. هي تقلبات الطقس فقط. والانتقال من أجواء العطل إلى أجواء المدارس والعمل، وما يرتبط بذلك من مشاعر الإحباط بسبب الخروج من حالة الاسترخاء إلى حالة الاستنفار والجهد المرتقب. وفي حالة كثير من الشعوب العربية، وفي مقدمتها السوريين، تزيد الأعباء المالية التي تخص شهر أيلول، من سلبية هذا الشهر في نظرهم. ويبدو أن الحل ببساطة، كي لا يتحول "اكتئاب الخريف" إلى حالة مزمنة لدى الكثيرين، هو إدراك وجود حالة الاكتئاب لدى الشخص، والعمل على معالجتها. إن كان من الصعب أن يتم ذلك بالطرق المكلفة، مادياً أو اجتماعياً، كالذهاب إلى طبيب نفسي. فيمكن أن يتم ذلك عبر محاولات أقل تكلفة. لكن يجب الوعي بذلك.

وفي حالتنا كسوريين. يجب أن نأخذ الأمر على محمل الجد. فأسباب الاكتئاب المزمن متوفرة في ظروفنا بشكل كثيف. وفيما يستطيع البعض تجاوز الظروف العصيبة بعزيمة صلبة. يقع آخرون فريسة الإحباط وانغلاق الأفق في نظرهم. قد لا يؤدي ذلك في أوساط السوريين إلى حالات انتحار ملحوظة، كما يحدث في الغرب، ربما بسبب البعد الديني الرادع. لكنه قد يؤدي إلى حالات فشل اجتماعي وأسري، بدأنا نسمع عن تفشيها بكثرة في أوساط السوريين.

لذا، أيها السوري، حينما تجللك الأفكار السوداوية، وينغلق أفق المستقبل في نظرك. لا تُرجع ذلك إلى الظروف الصعبة، فهي حافز للإبداع والابتكار، بحثاً عن الحلول. عليك أن تُرجع ذلك إلى حالة اكتئاب نالت منك، وعليك أن تحرص على ألا تتحول إلى حالة مزمنة.

ترك تعليق

التعليق