منشار المركزي، ولعبة الدولار والليرة


قد يكون الشغل الشاغل للكثير من السوريين في الداخل، هذه الأيام، إلى أين سيتجه سعر الصرف؟.. فمنذ نهاية شهر آب المنصرم، بدأ الدولار يسجل تراجعات نوعية في سعر صرفه، مقابل الليرة السورية، وصلت أخيراً إلى أدنى سعرٍ مسجلٍ للدولار، منذ أكثر من 15 شهراً.

إحدى بنود الإجابة على السؤال السابق، تتطلب الإجابة على سؤال، قد يكون أكثر تعقيداً، ماذا يريد مصرف سورية المركزي؟.. هل يريد خفض سعر صرف الدولار وتحسين قيمة الليرة؟، أم العكس؟

في سياق محاولات الإجابة على السؤال الأخير، تسود نظريتان، تقول الأولى، لا مصلحة للمركزي في خفض سعر الدولار، بصورة نوعية، مقابل الليرة، لأن حكومة النظام تغطي تكاليف ومصاريف مؤسسات الدولة، بما فيها الرواتب، بالليرة السورية، منخفضة القيمة، باستخدام احتياطي نقدي مقوّم بالدولار. وبالتالي، كلما كانت الليرة أرخص، كلما كانت حكومة النظام مرتاحة أكثر في تنفيذ هذه المهمة.

وبما يؤيد النظرية الأولى، يأتي سعي نظام الأسد لإطلاق عجلة إعادة الإعمار في سوريا، عبر جذب استثمارات من الدول الحليفة. وذلك يتطلب توفير شروط جاذبة عديدة للاستثمار، من بينها، بقاء سعر صرف الليرة منخفضاً، بما يشجع المستثمر الخارجي على الاستثمار في سوريا. فانخفاض قيمة العملة المحلية يمثل أحد العوامل الرئيسية الجاذبة للاستثمار، حول العالم.

لكن، بعض إجراءات مصرف سورية المركزي، في الأسابيع الأخيرة، أوحت بخلاف النظرية السابقة. وقدمت دعماً لأنصار النظرية الثانية، التي يقول أصحابها، إن المركزي يعمل على رفع قيمة الليرة السورية، للقول بأن "سوريا الأسد" في طور استعادة عافيتها الاقتصادية، وهي جاهزة لإعادة التأهيل والإعمار. ومن المعلوم، فإن قيمة العملة المحلية مؤشر رئيسي على حالة التعافي الاقتصادي، في سياق التقييمات الاستثمارية العالمية.

فأي النظريتين، أصح؟.. يبدو أن خليطاً من النظريتين، هو ما يُظهر سياسات المركزي في هذه الصورة من التناقض.

وباختصار، يبدو أن المركزي يريد تخفيض قيمة الليرة بالفعل، لكن ضمن هامش محدد، بصورة لا تضر بقدرة حكومة النظام على تمويل مؤسسات الدولة السورية.

بكلمات أخرى، حكومة النظام، التي يشكل المركزي أحد أدواتها الرئيسية، تريد الإيحاء بتعافي سوريا، عبر تحسن قيمة عملتها، وفي نفس الوقت، تريد الحفاظ على هامش محدد لسعر الصرف، كي لا يُستنزف احتياطيها من الدولار.

لكن ما الذي يدفعنا للقناعة السابقة؟.. ببساطة، فإن قرارات المركزي، خاصة الأخيرة منها، تدفع بالدولار إلى المزيد من الانخفاض. وهو ما يخدم سياسة مرسومة أعلن عنها حاكم المركزي، دريد درغام، منذ نهاية شهر آب، حينما تحدث عن مفاجآت سيشهدها سعر صرف الليرة مقابل الدولار. لكنه أنكر أي تدخلٍ مرتقبٍ للمركزي.

ومؤخراً، أصدر المركزي تعميماً، وقراراً، يعززان عوامل انخفاض الدولار. أما التعميم، فقد حدد المركزي فيه، شروط قبول الأوراق النقدية الأجنبية من قبل المصارف ومؤسسات الصرافة. وتتعلق الشروط بالمواصفات الفنية للورقة النقدية، بحيث لا تحتوي على أصباغ أو أحبار أو مواد أخرى أو أختام كبيرة أو كتابات ورسوم مشوهة للمعالم الأساسية للورقة النقدية، وألا تحتوي الورقة على أكثر من ثلاثة أختام وبحيث لا تؤثر على المواصفات الفنية والمزايا الأمنية للورقة النقدية. وطالب المركزي في تعميمه بعدم قبول الأوراق النقدية الأجنبية المهترئة أو المثقبة أو المخروزة أو الممزقة أو التي عليها لاصق، حتى ولو كان ذلك لا يغير من طبيعتها أو شكلها الأساسي.

باختصار، فإن المركزي وضع شروطاً تضطر شريحة واسعة من السوريين، ممن يملكون أوراقاً نقدية أجنبية، لا تنطبق عليها المواصفات السابقة، إلى بيعها عبر السوق السوداء، بطريقة تخدم تجار هذه السوق، وتخفّض من سعر الورقة الأجنبية.

أي أن المركزي، عبر هذا التعميم، يدعم تخفيض سعر صرف الدولار والعملات الأجنبية الأخرى، مقابل الليرة السورية.

أما بالنسبة للقرار، فقد عقّد المركزي أكثر، فرص استلام الحوالات الخارجية للسوريين في الداخل. وعزّز من قدرته على لمّ الدولار والعملات الأجنبية، من تلك الحوالات.

وذلك ليس أمراً جديداً، فالحوالات الخارجية الداخلة لسوريا، قد تكون العامل الرئيس الذي أدى إلى صمود اقتصاد نظام الأسد، حتى اليوم. وقد أعلن البنك الدولي أن الحوالات الخارجية التي دخلت سوريا، العام الفائت، تجاوزت 1.6 مليار دولار. يحصل المركزي على نصيب الأسد منها، عبر إجبار سكان المناطق الخاضعة له على تسلم حوالاتهم بالليرة السورية، على أن يحصل المركزي على العملات الأجنبية الواردة إليهم. وفي حال لا يريد المستفيد من الحوالة، تسلمها بالليرة، عليه اللجوء لسماسرة الحوالات، في السوق السوداء، الذين شكلوا شبكات واسعة عبر الأراضي السورية، قاعدتها الرئيسية في التعامل، هي الاستغلال.

القرار الأخير للمركزي، منع أي شخص من تصريف أكثر من حوالة واحدة شهرياً. كما منع أي شخص من استلام حوالة تفوق الـ 500 دولار أمريكي، بصورة مباشرة، بحيث يضطر المستفيد إلى إيداع المبلغ، بالليرات السورية، في وديعة بنكية، لثلاثة أشهر على الأقل. وإذا أراد المستفيد الحصول على قيمة حوالته بالليرة السورية، فإنه سيحصل عليها بعد خصم 10% عمولة، منها 1% لصالح المصرف المعني، و9% يحصل عليها المركزي. وإذا دققنا في معنى ذلك بالأرقام، نكتشف أن الدولار سيُحتسب على المستفيد، بقيمة لا تتجاوز 457 ليرة. أي أن من يستلم حوالة خارجية تفوق الـ 500 دولار، عليه أن يشتريها من المصارف بمبلغ 457 ليرة للدولار. علماً أن سعر الدولار حسب السوق السوداء، حوالي 490 ليرة. وسعره حسب النشرة الرسمية للحوالات، الصادرة عن المركزي، حوالي 508 ليرة. أي أن المركزي يحصل على الدولار، من مستلمي الحوالات الخارجية، بسعر يقل عن السوق، بأكثر من 30 ليرة.

وحسب قرار المركزي، آنف التفصيل، وما سبقه من قرارات، لا يستطيع المستفيدون من الحوالات الخارجية، استلامها بالعملات الأجنبية، بصورة مطلقة. ويتم تسليمها حصراً بالليرة السورية، فيما تذهب العملات الأجنبية إلى المركزي. وبذلك يلمّ الأخير المزيد من العملات الأجنبية، ليعزز احتياطه النقدي، وبسعر يقل عن سعر السوق السوداء، من الناحية العملية.

بالنسبة لمن يتلقى حوالة خارجية تقل عن 500 دولار أمريكي، يمكن له أن يستلمها مباشرة، بالليرة السورية، وحسب نشرة الأسعار الرسمية، أي الدولار بـ 508 ليرة. لكن عملياً، وعلى أرض الواقع، ترفض مكاتب الصرافة تصريف أي حوالة بالسعر الرسمي، بذريعة عدم توافر سيولة بالليرة السورية. مما يضطر مستلمي الحوالات للجوء إلى السوق السوداء، وبالتالي، تصريف الحوالة بسعر قد يقل عن 490 ليرة.

ومع قرار المركزي الأخير، بخصوص تصريف الحوالات الأعلى من 500 دولار، بسعر يساوي تقريباً، 457 ليرة للدولار، فإن علينا أن نتوقع المزيد من اللجوء للسوق السوداء، وتعزيز دور التجار في لمّ المزيد من الدولار من أيدي البسطاء من الناس، وبأسعار ستتجه أكثر نحو المزيد من الانخفاض.

لكن، إلى أين سيتجه سعر صرف الدولار؟.. نحو المزيد من الانخفاض، نعم.. لكن بهامش قد لا يقل عن 450 ليرة. هذه هي خلاصة ما يريده المركزي، حسبما يبدو. أن ينخفض الدولار، لكن ضمن هامش محدود، يسمح له بتغطية حاجة الحكومة من التمويل، بكل أريحية.

في هذه الأثناء، يعاود المركزي لعبته العزيزة على قلوب مسؤوليه، وهي لمّ الدولار من السوريين، بأسعار تقل عن سعر السوق. ويرمم المركزي احتياطه النقدي، بشكل دائم، وآمن، بعيداً عن أي هزات تهدد استقرار اقتصاد نظام الأسد، وقدرته على تغطية نفقات مؤسسات الدولة الخاضعة له.

ويبقى منشار المركزي يعمل بالاتجاهين.. مع تخفيض الدولار، يلمه من السوق بسعر رخيص. ومع ارتفاعه، يبيعه عبر شبكات تجار متعاونين معه، بأسعار مرتفعة.

ترك تعليق

التعليق