وقفة عند "سر الرقة القذر"


ما يزال ذلك التحقيق، الفضيحة، الذي نشرته شبكة "بي بي سي" البريطانية، منذ أيام، تحت عنوان "سر الرقة القذر"، يستحق الوقوف عنده، ملياً. فهو بقدر ما يؤكد ظنوناً كانت سائدة في أوساط كثيرٍ من السوريين، بقدر ما يطرح تساؤلات عن المستقبل المرتقب لسوريا، ولظاهرة تنظيم "الدولة الإسلامية"، فيها. إذ تُوحي صفقة الرقة التي كشفتها "بي بي سي"، بأن الولايات المتحدة الأمريكية، وحليفتها، بريطانيا، ليستا بصدد القضاء على ظاهرة، "داعش"، بل هما بصدد المزيد من استخداماتها.

التحقيق الذي نُشر منذ أيام، وتناولته وسائل إعلام عربية عديدة، كشف عن صفقة عُقدت بين ميليشيا "قوات سوريا الديمقراطية"، ذات القوام الكردي، من جهة، وبين تنظيم "الدولة الإسلامية" في الرقة، من جهة أخرى. هذه الصفقة حظيت بموافقة ورعاية أمريكية – بريطانية. وتم تنفيذها في 12 تشرين الأول الفائت. وقضت بتأمين خروج آمن لمئات من أخطر مقاتلي التنظيم، برفقة أسرهم، في واحدة من أضخم عمليات الترحيل التي شهدتها سنوات الصراع السوري. إذ وصل طول القافلة التي نقلت أسر مقاتلي التنظيم، ما بين 6 إلى 7 كليومترات، وضمت حوالي 4 آلاف شخص، منهم على الأقل، 350 من أخطر قادة ومقاتلي تنظيم "الدولة الإسلامية"، الذين اصطحبوا معهم كميات كبيرة من الذخيرة، قبل أن تختفي القافلة الضخمة في الصحراء، ويفرّ مقاتلو التنظيم، في وجهات مختلفة، أبرزها، العمق التركي، والعمق السوري (الريف الشرقي لدير الزور)، وفي حالات أقل، إدلب.

بعد أن أنكرت قيادة التحالف الدولي، الصفقة المذكورة في البداية، اضطرها تحقيق الـ "بي بي سي" إلى الاعتراف بها، في حين، ما تزال قيادة "قسد"، تنفي ذلك، رغم اعتراف الأمريكيين والبريطانيين. أما ذريعة قيادة التحالف، فكانت، إنقاذ الرقة من حرب مدمرة دامت 4 شهور، وتجنب حصول خسائر بشرية كبرى، والاستجابة لرغبة قيادات من المجتمع المحلي، حسب وصف الأمريكيين.

إذاً، "قسد" لم تنتصر في الرقة بالمطلق. نصرها كان مرفقاً بصفقة إخلاء، قد تكون الأضخم في تاريخ الصراع السوري، منذ 2011.

إن أحسنا النوايا، إلى حد السذاجة، نستطيع أن نقول أن صفقة "الرقة" كانت سوء إدارة، واستسهال لتحقيق نصر إعلامي، من جانب التحالف الدولي، بقيادة الأمريكيين والبريطانيين، وحلفائهم المحليين من الأكراد. لكن، إن دققنا في وجهات الفارين من مقاتلي التنظيم، ممن تم إخلائهم من الرقة، بأمان وسلاسة عالية، سينخفض منسوب "حسن النوايا" لدينا، إلى حدوده الدنيا.

خلال الأيام الأخيرة، تدور جبهة اشتباكات شرسة على تخوم مدينة البوكمال. ويتهم الروس نظرائهم الأمريكيين بأنهم عرقلوا مساعي روسيا لتأمين التغطية الجوية لمقاتلي النظام والميليشيات الشيعية الداعمة له، في معاركهم قرب البوكمال. وُجهة بعض مقاتلي التنظيم، ممن أُخلوا من الرقة، كانت إلى ريف دير الزور الشرقي، حسب شهود تحدثوا لـ "بي بي سي"، في تحقيقها المشار إليه. هل يعني ذلك أن الأمريكيين أرادوا استخدام مقاتلي "داعش" لوقف تقدم النظام وحلفائه على الحدود العراقية، وإفشال مساعي إيران للربط البرّي بين بغداد ودمشق؟.. هذا ما تُوحي به تفاصيل صفقة "الرقة". فحينما نعلم أن طائرات التحالف رافقت قافلة المقاتلين الذين تم إخلاؤهم من الرقة، في طرق صحراوية مهجورة، وأمنت لهم الإضاءة، وحرصت على وصولهم سالمين إلى آخر نقطة تفصل بين مناطق سيطرة "قسد" وبين ريف دير الزور الشرقي.. يمكن أن نفهم أن المشهد لم يكن نتاج سوء إدارة واستسهال. إنه استخدام لظاهرة "داعش" في حرب لا يبدو أنها في طريقها للانتهاء.

ليست هذه هي المرة الأولى التي يستخدم فيها أطراف الصراع في سوريا، ظاهرة "داعش"، عبر نقلها من مكان إلى آخر، واستخدامها في جبهات اشتباك محددة. فقبل بضعة أشهر، أخلى حزب الله، بالاتفاق مع نظام الأسد، مئات من مقاتلي التنظيم، من الجبال اللبنانية، باتجاه شرق البلاد. وأثار الأمريكيون فضيحة بهذا الخصوص. واستهدفوا قافلة المقاتلين الذين تم إخلائهم، بصورة تحذيرية وليست جدية. كان الأمريكيون يريدون تسجيل نقطة إعلامية على حساب معسكر الإيرانيين، "إنكم تتعاملون مع داعش". لكن على أرض الواقع، لم يكن الإيرانيون وأدواتهم (نظام الأسد وحزب الله)، وحدهم من يتعاملون مع "داعش"، كان الأمريكيون أيضاً، جزءاً من هذه الظاهرة.

قبل أيام، اكتشف فصيل من الجيش الحر في محافظة درعا، محاولة تهريب لعناصر من تنظيم الدولة، تم إخراجهم من جنوب دمشق، بصفقة مع أحد ضباط النظام، وتم نقلهم إلى أقرب نقطة من انخل. وكان من المفترض أن يعبروا حاجزاً للجيش الحر، هناك، بسلاسة، باتجاه منطقة سيطرة تنظيم الدولة في ريف درعا الغربي. لكن أمراً ما أعاق حصول عملية التهريب تلك، واكتُشفت.

الأمريكيون وحلفاؤهم، وكذلك الإيرانيون وحلفاؤهم، يستخدمون تنظيم "الدولة الإسلامية"، وينقلون مقاتليه من مكان إلى آخر، حسبما تقتضي مجريات اللعبة الميدانية في سوريا. قد لا تكون تلك معلومة جديدة بالنسبة للكثير من السوريين، لكنها دون شك، حينما تكون موثقة في تحقيق لوسيلة إعلامية عالمية، تتمتع بمصداقية كبيرة، فهي بكل المعايير، فضيحة.

وحسب تفاصيل تلك الفضيحة، ما هي الوجهات التي يريد الأمريكيون استخدام مقاتلي "داعش" ضدها؟.. حسب الوجهات التي تم تهريب مقاتلي التنظيم إليها بعد إخلائهم من الرقة، فالمُستهدف، ريف دير الزور الشرقي، وتحديداً، فيما يبدو، البوكمال. وتركيا، ومن ورائها الدول الأوروبية. وكذلك إدلب.

لكن، هل كانت واشنطن تستهدف توجيه مقاتلي التنظيم إلى تلك الوجهات تحديداً؟.. لم يؤكد تحقيق الـ "بي بي سي" ذلك. لكنه كشف عن أن شبكات التهريب، التي حققت مرابح مالية ضخمة، جراء هذه الصفقة، أتاحت لكل مقاتل من التنظيم، الذهاب إلى الوجهة التي يريد، تقريباً. مما يعني أن الأمريكيين كانوا مستعدين لنشر فوضى تنظيم "الدولة" في أي اتجاهٍ كان. أمام هذه الحقيقة، يصبح الحديث عن هدف أمريكا بالقضاء على تنظيم "الدولة" وتهديداته الإرهابية للغرب، محل شك وارتياب. خاصة بعد أن كشف تحقيق الـ "بي بي سي" أن عناصر من المقاتلين الأوروبيين في تنظيم الدولة، دخلوا تركيا عبر شبكات تهريب محترفة، بغاية العودة إلى بلدانهم، لاستهدافها، في إطار ما أسماه أحد مقاتلي التنظيم، بـ "يوم الحساب". وتُوحي الشهادات التي عرضها تحقيق الـ "بي بي سي" أن معظم مقاتلي التنظيم يمموا وجوههم شطر ريف دير الزور الشرقي، حيث تقع معركة ساخنة للغاية في البوكمال. هناك، دون شك، ينتظرهم استخدام أمريكي جديد، ضد الميليشيات الشيعية العراقية واللبنانية التي تقاتل لتحقيق حلم طهران بوصل بغداد بدمشق، برّاً.

إذاً، فالأمريكيون لا يعنيهم، حسب ما فضحه هذا التحقيق، القضاء على ظاهرة "الذئاب المنفردة" في أوروبا، فهم ييسرون عودة بعض قادة التنظيم من الأجانب، إلى بلدانهم الأوروبية، لتحقيق أهدافهم باستهداف تلك البلدان. كذلك فإن الأمريكيين لا يعنيهم القضاء على الوجود الميداني للتنظيم داخل الأراضي السورية، فهم ييسرون انتقالهم إلى البوكمال.

تلك على الأقل، النتائج التي يُوحي بها ذلك التحقيق – الفضيحة. والذي يُفضي إلى نتيجة خطيرة مفادها، فصول جديدة من الصراع الميداني، تنتظر الساحة السورية. لأنه ببساطة، لا توجد نيّة للغرب في وقف الصراع. وفيما يبدو، فإن الأمريكيين قرروا استخدام أدوات نظام الأسد، وحلفائه الإيرانيين، ذاتها. المتطرفون. فهم أداة مناسبة لاستمرار اللعبة، التي بدأها الأسد، لكنه فيما يبدو، سيكون عاجزاً عن وضع خاتمة لها، تخدم مصالحه.

أما أماني النظام بإعادة الإعمار، فعليها السلام، إلى حين. فمقاتلو تنظيم "الدولة" الذين هم بصدد تفعيل استراتيجية "الذئاب المنفردة" في أوروبا، لن يبخلوا على النظام بإعادة إحياء استراتيجيتهم الشهيرة، التفجيرات الانتحارية، الكفيلة ببث الفوضى وعدم الأمان، في أي بلد. وهو أمر بدأت ملامحه الأولى تتبلور في الأسابيع القليلة الماضية، حيث تتالت تفجيرات في العاصمة دمشق، تبناها تنظيم "الدولة". والمستقبل قد يُنبئ بالمزيد.

ترك تعليق

التعليق