الأسواق الشعبية والسياق التفاوضي للأسد

لا يمكن أبداً أن نبدي أي استغراب من قيام نظام الأسد باستغلال أية فرصة يمكن أن تسنح له لتحقيق سبق جديد، في إطار استراتيجية استخدام القوة المفرطة في مواجهة معارضيه، أو ما يصفها بالبيئة الاجتماعية الحاضنة لهم، والتي وصلت في يوم من الأيام إلى تعداد مليون شخص على الأقل وفق ما صرح به بشار الأسد شخصياً.

ولكن هذا لا يعني أن نحرم بشار الأسد من تقييم إنجازه الجديد الذي حققه خلال الأيام الماضية، عندما حاول أن يُدخل سياسة قصف الأسواق الشعبية بالعنف والدموية المعهودة منه كعامل من عوامل القوة التفاوضية التي يستند إليها في مواجهة معارضيه في جنيف، إذ أدى القصف المتزامن لسوق السمك في (كفرنبل) والسوق الرئيسي في (معرة النعمان) في يوم الثلاثاء 19/4 إلى تعجيل انسحاب وفد هيئة المفاوضات المعارضة، في الوقت الذي كان يجب فيه مناقشة الحكم الانتقالي، ثم قصف سوق (دوما) في الغوطة الشرقية فيما ظهر على أنه ردة فعلٍ على هذا الانسحاب، مروراً بسوق الحلوانية في منطقة طريق الباب بحلب، وليستكمل الأحد 24/4 أداته في الإقناع بأهمية التفاوض معه في قصفٍ مركزٍ على السوق الشعبي في حي الصاخور شرق حلب، والذي أودى كما سابقيه بقتل وجرح العشرات من المدنيين. وقُصفت جميع هذه الأسواق في ساعات الذروة الصباحية وقبيل الظهر، في مجازر موصوفة في الزمان والمكان والهدف؛ بل وأيضاً فيما يشبه تطبيقاً مكرراً لسيناريو قام به خلال شهر تشرين الأول من العام الماضي /2015/ مستفيداً من زخم التدخل الروسي.

ولأن المفاوضات التي جرت جولتها الثالثة في جنيف الأسبوع الماضي لم ترق إلى مستوى المفاوضات المباشرة، حيث ظل المبعوث الدولي (استفان دي مستورا) يتمتع بصلاحيات شبه مطلقة كوسيط، معتمداً على لقاءاته المكوكية مع كل طرف على حدا، ومحافظاً على دوره الوظيفي وفق الأعراف الدولية في طرح البدائل والخيارات دون تقديم تصور متدرج البناء لحل الأزمة السورية، فإن ذلك كله أدى إلى بقاء مستوى عالٍ من الحساسية بين الطرفين المتفاوضين، الأمر الذي سهل على النظام اتخاذ قراره بتوظيف أداته العنيفة ضد المدنيين السوريين في عمليات جس النبض، في الوقت الذي كان فيه يُحشر رويداً رويداً للانتقال إلى خانة مناقشة هيئة الحكم الانتقالية، والتي ترتبط تشعباتها بمصير رأس النظام.

لذلك فإن النظام يشعر حالياً بتحقيقه نجاحاً تكتيكياً كبيراً عبر تمكنه من إعادة المفاوضات إلى المربع الأول، مربع إعادة تهيئة المناخ المناسب لإجراء مفاوضات مفيدة، ولكن بدءً من إعادة الهدنة من جديد، وتكرار الحديث عن المناحي الإنسانية للأزمة السورية فيما يشبه إعادة لحلقة سابقة من سيناريو بات مشروخاً ومثيراً لليأس من الحالة السورية، سواء بالنسبة للسوريين أنفسهم، أو بالنسبة للأطراف الإقليمية والدولية.

هذا اليأس من حل سياسي، ربما يكون هدف النظام الاستراتيجي من الحملة المسعورة التي يشنها على المدنيين في أسواقهم المعاشية، وضرب مصادر رزقهم وانتظام حياتهم التي تمنحهم قدرة أكبر على الصمود في المناطق المحررة، حيث يترافق ذلك مع استمرار الصمت العالمي عما يقوم به، بل واستبعاد أي ضغط عسكري عليه في سبيل دفعه للالتزام بالمساحة المشتركة بين الطرفين وداعميهم، والتي توفرت وفق ما هو منصوص عليه في بيان "جنيف 1" والقرار الأممي رقم /2254/.
 
وإذا ما استمر الخذلان الإقليمي والدولي لقوى المعارضة، فإن النظام ربما يسعى إلى تحقيق ذروة المكاسب الاستراتيجية بشن عمل عسكري واسع في حلب بالتحديد، مستغلاً ردات الفعل غير المدروسة لبعض الأطراف العسكرية المسلحة من المعارضة عما يرتكبه من جرائم، والتي بدأت وسائل إعلامه تعبئ لها بصورة محمومة، ومستغلاً الموقف الأخير الذي أصدره الرئيس الأمريكي (أوباما) والذي اعتُبر بمثابة الضوء الأخضر لهذه العملية بحجة وجود وتمدد جبهة النصرة، فيعيد كرة التهجير في حلب عبر تداعيات "جنيف3"، والتي نجح فيها أول مرة في شتاء عام /2014/ إبان "جنيف2".

ترك تعليق

التعليق