فشة خلق.. هل تمزّقت العائلات السورية حقّاً؟، أم أنّها فجوات مرحلية؟
- بواسطة فادي شباط - خاص - اقتصاد --
- 13 كانون الأول 2019 --
- 1 تعليقات
"لو أستطيع لتجاوزت حافياً الجدار الاسمنتي الفاصل، وقطعت البحار سباحةً، حتى أصل إليهم وأعاقبهم جميعاً على نسياني وسوء معاملتي وعدم تقديرهم لمعاناتي، أنا من دفعتهم لمغادرة ادلب والهجرة إلى أوروبا، أنا من ساعدهم بالوصول إليها لأجل أن ينعموا وأطفالهم بحياةٍ هادئةٍ بعيداً عن أجواء الحرب وأعبائها ومرارتها".
قبل مغادرته غاضباً، قال الخمسيني "أبو عبد الرحمن"، هذه الكلمات، بعد انتهاء حديثه لـ "اقتصاد"، قاصداً أخوته الثلاثة اللاجئين في ألمانيا منذ منتصف العام 2012.
بدأ كلامه: "منذ بداية الثورة السورية وبالرغم من ضيق المعيشة وتدنّي الظروف الاقتصادية لم أتلقَ أيّة مساعدة من أحدٍ ما أو من جمعيةٍ خيرية، كنت أُؤمّن قوت أطفالي الأربعة من خلال عملي في متجري الخاص الذي أبيع فيه الخضروات والفواكه وبعض الأجبان والألبان، لكن في المراحل الأخيرة تعرّضت بلدتي في ريف ادلب الجنوبي لقصفٍ عنيفٍ من طائرات نظام الأسد والاحتلال الروسي، فقدت خلاله منزلي ومتجري الصغير، وأصبحت نازحاً مُهجّراً في المخيّمات على الحدود السورية التركية، أقطن خيمةً تُشبه الثلاجة لشدّة برودتها، لا أملك أيّة موارد، أقضي كامل الوقت باحثاً عن العمل".
لم ينقطع التواصل بين أبو عبد الرحمن وأشقّائه، فكان بين الآونة والأخرى يُحادثهم ويُهاتفهم عبر تطبيق "الواتساب"، غالباً ما يُرسل لهم صوراً قديمةً تربطهم بموقفٍ مُعيّن، وأحياناً صور بلدتهم حتى لا ينسوها.
في الأيام القليلة الماضية كثّف من محادثتهم شارحاً لهم ظروف حياته الجديدة علّهم يُرسلون له بعض المساعدة، فكانت الصدمة كبيرة، إذ لم يكترثوا لأمره أبداً.
رُبّما لم يفهموا بالإيحاء، فطلب المساعدة علناً، أخاه الأصغر "27 عاماً" اعتذر منه مُتذرّعاً بتجديده إجراءات الإقامة، فلا يستطيع تحويل المال بدون أوراق رسمية، أمّا الأكبر "31 عاماً" مُلتزمٌ بأقساط سيارته التي اقتناها العام الماضي، والأكبر منه "34 عاماً" يُخاطبه صباحاً فيرد مساءً، يهاتفه مساءً فيرد صباحاً، حتّى يئس من الأمر كلّه.
شادي، 33 عاماً، مُهجّر من منطقة ريف دمشق، روى لـ "اقتصاد" صدمته وكيفية دخول الجفاء بينه وبين أقاربه.
غادر أهله سوريا إلى بلدٍ عربيٍّ في مراحل مُتقدّمة من عمر الثورة، تعرّضت منطقته لحصارٍ خانقٍ تجاوز خلاله ثمن كيلو الأرز الواحد 150 دولار أمريكي، لا يوجد أيّ عملٍ في كُلّ المنطقة، كان والده سنده الوحيد، يُرسل له بين الحين والآخر ما يُساعده على عدم العوز، لكنّه توفّى في مهجره بعد صراعٍ مع مرضٍ مُزمن، تاركاً مع أحد أشقّائه مبلغاً بسيطاً. ومما ساعده في الصمود كان رفعُ الحصار عن المنطقة بشكلٍ نسبيٍّ وانضمامه مُجبراً لأحد فصائل المعارضة السورية.
مطلع العام 2018 فتحت أجهزة نظام الأسد طريقاً آمناً من ريف دمشق إلى محافظة ادلب في الشمال السوري بأجرة لا تقل عن 4300 دولار أمريكي، وكان بمثابة النجاة للكثيرين.
جمع شادي جزء لا بأس به من المبلغ، وطلب من عمّه إرسال نصف ما تركه والده لاستكماله، وبعد الخوض بالتفاصيل بينهما كان جواب العم "ما الضامن بأن يعود المبلغ في حال لم تصل ادلب".
وقف شادي حائراً أمام جواب عمّه، ضاعت لديه المفاهيم، حصار ثمان سنوات، حرمان - ركام - دماء - أشلاء، لم يطلب شيئاً ليس ملكه، وذات العم كان يوماً يفتخر بوجود ابن أخيه في صفوف الثائرين.
في مشهدٍ مُشابهٍ أُتيح لـ رضوان الوصول إلى تركيا بعد تهجيره من محافظة القنيطرة إلى ادلب، أيضاً كان بحوزة أحد أقاربه في ألمانيا مبلغاً مالياً صغيراً تركه والده، حين شرح لقريبه وضعه الجديد وطلب المبلغ لاستخدامه في الوصول إلى أوروبا، بدأ القريب "بطريقةٍ فوقية" تقديم نصائح عديدة أبرزها الاستقرار في تركيا والعمل فيها مع لومه لتركه سوريا، وماطل في الجواب كثيراً، حينها كانت رغبة رضوان بشتم قريبه علناً، أو أقلّها أن يقول له بصوتٍ عالٍ "اي تعال انت عيش مكاني بتركيا وخليني انا عيش مكانك بألمانيا".
لم تكن صدمةً عابرةً بالنسبة لرضوان، حظر رقم قريبه، وغادر تركيا عائداً إلى مخيّمات الشمال السوري، أقاربه الحقيقيون هم شركاء الحصار وتفاصيل الثورة، لا الأقارب المفروضين تقليدياً وفقاً لما قاله.
بثينة، قطعت تواصلها مع كافّة الأقارب بدول الّلجوء، في بداية الأمر كانت الإتصالات طبيعيةً جدّاً، تارةً تُبادر هي في الإتصال، وتارةً يُبادر الأقارب، مع مرور الوقت فترت الإتصالات قليلاً، فكانت هي المُبادرة، كُلّما اتّصلت بهم يكون بداية كلامهم "لازمك شي، أمانة أمانة إذا لازمك شي احكي"، فتشعر أنّها متسوّلة، أوقفت مُبادرتها حتّى لا تُسيء إليهم، وتقول عنهم "مأنزعين"، فالّلسان ليس مضبوطاً على الدوام.
وتفترض بثينة جدلاً أنّها بحاجة لمساعدةٍ ما، فهل يجب أن تطلبها، وترى أنّ نظام الأسد حاول على مدار سنواتٍ طوال نزع كرامة الناس ولم يستطع، فكيف نقبل أن نُهين كرامة بعضنا البعض، ونحن العائلة الواحدة!
وتُردف، بعيداً عن التعميم، أنّها تعرف لاجئين في تركيا يُرسلون لأقاربهم ما يتيسّر لهم، علماً أنّ مساعدات الأسرة فيها لا تكفي لسد حاجة نصف أسرة هناك، لو كُلّ لاجئٍ سوريٍّ في أوروبا أرسل 20% فقط من المُساعدات الّتي يتلقّاها من الدول المُضيفة، لساهم في توفير مُقوّمات صمود أهله في الداخل، ولما وصل حال الناس إلى ما هم عليه اليوم.
أكثر ما يُحزن بثينة أنّ اسم بلدتها "في ريف ادلب" الّتي تتعرّض للقصف يومياً يُذكر في الكثير من نشرات الأخبار، لكن أقاربها ذاتهم لم يتّصلوا للاطمئنان عليها أو على عائلتها.
أمّا فداء فيقول، في الوقت الّذي يتلقّى فيه بعض أصدقائه المساعدات من أقاربهم اللاجئين في أوروبا، يقوم هو بإرسال مصاريف والدته الّتي تعيش في تركيا، علماً أنّ كُلّ أقاربه لاجئين في أوروبا وظروفهم أفضل من الأوروبيين أنفسهم، ويُنّوه، ليس كُلّ الشباب مثله، فالأكثرية المُطلقة عاطلة عن العمل، وينصح من بعد تجاربه عدم الخوض في التفاصيل مع الأقارب اللاجئين لأنّ أكثرهم لم يعيشوا تفصيلاً صغيراً منها، وبالتالي لن يفهموها كما هي.
تسع سنوات ولا يجد أكثر السوريين وقتاً للراحة، يعيشون تحت وابل صواريخ الأسد وروسيا، يتناولون ما تيسّر لهم من طعامٍ بين ركام منازلهم، يتنقّلون بين الخيام، يحترقون تحت أشعة الشمس، تُصبح بشرتهم سوداء إثر دخان البلاستيك، في لحظات ما قبل النوم يغلبهم توقهم لحياةٍ اجتماعيةٍ بعيدةً عن الحرب برفقة الأهل والأصحاب، يستيقظون، تتبخر الأحلام، ليعيشوا ذات الواقع المُعاش يوم الأمس وقبله.
التعليق