رحلة لاجئ من دمشق إلى القاهرة...بأكثر من 100 ألف ليرة

في الأشهر الثلاثة الأخيرة من العام الماضي شهدت دمشق العاصمة حركة نزوح كبيرة من الريف الملتهب والذي تصاعدت المعارك فيه بوتيرة متسارعة، أفقدت مئات آلاف السوريين منازلهم.

في دمشق الإدارية، وفي بعض أحيائها "الآمنة"، تصاعدت الإيجارات التي كانت في السابق أصلاً مرتفعة، فكانت تتجاوز الإمكانيات المادية لغالبية النازحين من الريف القريب. 

سكن بعضهم عند أقارب مغتربين أو مقيمين، والبعض الآخر اشترك مع عدة عائلات تربطها صلات قرابة في إيجار منزل واحد، متحملين حالة الضنك في العيش، وفقدان الخصوصية، حتى غصّت بعض البيوت بأكثر من عشرين فرداً.

أما النازحون الأقل حظاً فافترشوا الحدائق والمدارس والمساجد في مشهد لم تألفه دمشق لأبناء سوريا من قبل.

عندما قرر أحمد المغادرة
(أحمد-س) من هؤلاء النازحين. فرّ من منزله في حرستا بريف دمشق، مطلع تشرين الأول /أكتوبرالمنصرم، بعد أن باتت الحياة فيها مستحيلة، وأصبح تواتر القذائف المتساقطة على منطقة سكنه كبيراً وخطيراً للغاية، حيث كاد يلقى حتفه أكثر من مرة.

لم يفقد (أحمد– س) فقط منزله، بل فقد بقاليته التي كانت مصدر رزقه الوحيد، بعد تساقط القذائف عليها، وبعد أن باتت منطقة سكنه شبه مهجورة، استضافه قريب مغترب في بيته بدمشق، لكنه لم يشعر بارتياح، وباتت العاصمة، بشوارعها المزدحمة، وأصوات الاشتباكات تقترب من أحيائها "الآمنة"، تشكّل ضغطاً نفسياً كبيراً عليه، فقرر مغادرة البلاد إلى مصر، ليلتحق بقريب له، سبقه إلى هناك وشجعه على اللحاق به.

جمع تحويشة العمر
يروي (أحمد– س) لموقع "اقتصاد" قصّة رحلته الشاقة إلى مصر، فبعد أن حزم أمره واتخذ قراره بالسفر، بدأ بدراسة إمكانياته المادية، وتكاليف السفر إلى هناك، فجمع كل ما بقي بحوزته وزوجته من أموال ومصاغ، فشكلوا فقط 160 ألف ليرة سورية، ليكتشف أن هذا المبلغ يغطي بالكاد تكاليف السفر بالطائرة إلى القاهرة، وتكاليف الإقامة والمعيشة في مصر، لشهر واحد فقط.

الحظ العاثر
إيمان– شقيقة أحمد، تروي لـ"اقتصاد"أنها اشترت تذاكر سفر إلى القاهرة قبل شقيقها بأسبوعين فقط، في مطلع كانون الأول /ديسمبرالمنصرم، كلفتها التذكرة العادية على شركة مصر للطيران، وهي أرخص شركات الطيران تكلفةً، 20 ألف ليرة تقريباً.

لكن وفي أسبوعين فقط، أُغلق مطار دمشق الدولي بعد اقتراب المعارك منه، ومن ثم انخفضت الليرة السورية سريعاً مقابل الدولار، من 82 إلى أكثر من 96 ليرة سورية، فارتفعت أسعار تذاكر الطيارة، وبات على السوريين المسافرين جواً أن يغادروا عبر الأراضي اللبنانية.

الأسعار تقفز
يروي (أحمد– س) كيف قفزت أسعار تذاكر الطيران أكثر من 30%، وبات سعر تذكرة المصرية، وهي أرخص شركات الطيران المتاحة بدمشق، أكثر من 30 ألف ليرة، يقول أحمد: "لم يتوقف الأمر عند ذلك، بل أغلقت الشركة المصرية للطيران مكتبها بدمشق، أما شركة طيران الشرق الأوسط– اللبنانية، فكان مكتبها بدمشق يرفض بيع التذاكر لأسباب غير مفهومة.".

يعتقد أحمد أن تذاكر الطيران أيضاً نزلت السوق السوداء ككل شيء آخر في "سوريا الأسد"، فإغلاق مكتب المصرية، وإحجام مكتب اللبنانية عن العمل، أدى إلى ارتفاع أسعار التذاكر أكثر، وبدأت مكاتب السياحة والسفر بدمشق تتقاذف الأسعار، وكانت المضاربات الرئيسية بالدرجة الأولى على تذاكر المصرية، ومن ثم اللبنانية.

يضيف أحمد: "المشكلة الثانية كانت في المواعيد، فأقرب موعد كان لأكثر من أسبوعين، ومما يثبت أن القضية كانت خاضعة للمضاربة ورفع الأسعار، وطمع مكاتب السياحة وتواطؤ مسؤولي شركات الطيران معهم، أنك يمكن أن تشتري تذكرة الطيران بموعد أقرب، لكن بسعر أعلى، وأن القضية ليست خاضعة لأولوية الحجز، بقدر ما هي خاضعة لمن يدفع أكثر".

الفارق 10 آلاف
في هذه الظروف، انتعشت نشاطات سيارات التكسي المختصة بالسفر إلى بيروت، وتراوحت أسعارها بين 7000 آلاف ليرة إلى 10 آلاف ليرة، حسب الاتفاق، ونشط السفر على خط دمشق – بيروت، وازدحمت المعابر الحدودية السورية– اللبنانية بالمسافرين.

يقول أحمد: "إحدى الحلول التي اكتشفتها كانت أن أسأل عن تكاليف الحجز من مكتب المصرية للطيران في بيروت عن طريق أحد أقاربي، وكنت محقاً في تخميني، فالفارق بين سعر تذكرة المصرية للطيران بين دمشق وبيروت، أكثر من 10 آلاف ليرة، شريطة أن يكون الحجز احتياطياً- أي على قائمة الانتظار".

لعبة كان مكتب المصرية للطيران يلعبها في بيروت، مستغلاً ضغط الحجوزات على الشركة من السوريين الفارين من بلادهم عبر بيروت، وهو أن يترك عدداً من المقاعد غير المحجوزة في الطائرة، ليتاجر موظفو المصرية عبر مكاتب السياحة ببيروت بهذه التذاكر في السوق السوداء اللبنانية، ومن لا يدفع المبلغ المطلوب، عليه أن يتقبّل وضعه على قائمة الانتظار، أو أن يدفع مبلغاً أكبر ليحصل على التذكرة المطلوبة في الموعد الذي يريده، أو أن يحجز بصورة نظامية، وهذا يعني موعداً لا يقل عن أسبوعين إلى ثلاثة أسابيع.

يقول أحمد: "قبلت أن أكون على قائمة الانتظار بعد أن وعدني مدير مكتب سياحة لبناني أنه رتب الأمر مع موظف المصرية للطيران، وأن القضية روتينية، لكنني اكتشفت أني وقعت في عملية نصب من الجانبين، إذ لم يعترف الموظف باتفاقه مع مكتب السياحة، وقضيت ليلتين متتاليتين أتردد على مطار بيروت حتى استطعت السفر".

كان أحمد محظوظاً كما روى لنا لأن قريباً له كان يسكن في بيروت، فلجأ إليه مع عائلته، لكنه أخبرنا أن عدة عائلات سورية كانت تنام في المطار، إحداها بقيت ثلاث ليالي، ينامون الليل، ويقضون النهار بجوار مكتب المصرية للطيران، إلى أن رقّ قلب الموظف لهم، ويسّر لهم السفر على نفس رحلة أحمد.

وروى أحمد لنا أنه تعرّض لمعاملة سيئة من الكثير من موظفي المطار ببيروت، وكذلك في المعبر الحدودي البري على الجانب اللبناني، إذ كان هناك الكثير من الجفاء والعصبية والشك في طريقة تعامل الدرك وأفراد الأمن اللبنانيين مع السوريين تحديداً.

يومان كاملان 
استغرقت رحلة أحمد من دمشق إلى القاهرة أكثر من يومين كاملين، علماً أن الرحلة بالطائرة تستغرق أقل من ساعتين، لكن أحمد أقرّ لنا أنه ارتاح حالما وصل القاهرة، حيث كان التعامل أليَن وأكثر مرونة، والإجراءات أكثر يُسراً بصورة عامة.

أنفق أحمد أكثر من 100 ألف تكاليف الرحلة فقط، وهو مبلغ ليس بالهيّن بالنسبة لأبناء الطبقة الوسطى، أولئك الذين لا يملكون كمّاً معتبراً من المدخرات، أو أن الحرب الدامية في سوريا أتت على مدخراتهم.

لم تكن رحلة أحمد الوحيدة من نوعها، فقد أكّد لـ"اقتصاد "أنه يعرف سوريين عانوا أكثر منه بكثير حتى وصلوا مصر.

شاهد على المرارة
قصّة أحمد تلك، شاهدٌ على مرارات السوريين التي تفاقمت في السنتين الأخيرتين، لتصبح مآسي غير مسبوقة في تاريخهم القريب، مآسٍ من التشرد والنزوح وتفاقم ضنك العيش، ناهيك عن فقدان الأمن وسفك الدماء وخسارة الأحباء.

ترك تعليق

التعليق